لم أسمع في حياتي عبارةً أسخف، لا بل أحقر، من تلك التي تقول "عند تغيير الدُّول، إحفظْ رأسك".

إذًا هي عبارة تدعو المرء إلى السُّكوت عما يدور من حوله، مهما عظم، ومهما تضمَّن من تجاوزات للحقِّ وانتهاكات للإنسان، إلى حين اتِّضاح الصُّورة، فيميل صاحبنا إلى الجهة الرَّابحة، أو لا يُعدُّ خصمًا لها، فينجو برأسه.

كلام برسم شريحة لبنانية، تسمَّى المثقَّفين، (ولا أعمِّم) "يشنِّفون" آذاننا ويكحِّلون أعيننا بمرآهم، زمن السِّلم، بالمواقف الإنسانيَّة، وبنُصرة الحقوق، وبثورتهم على الأنظمة القائمة، وبنظريَّاتهم لتغيير تلك الأنظمة، وفنجان القهوة في المقهى، فارغ أمامهم. شربوا فنجانًا طوال النَّهار واكتفوا.

ومثلُهم شريحة من الإعلاميين، يعانون إسهالًا كلاميًّا وكتابيًّا، وحين يفرغون من التَّعبير عن آرائهم النَّيِّرة، ينسون ما عبَّروا. وحين "ينُطُّون"، من شاشة إلى أخرى، وقد أصبحوا محلِّلين استراتيجيِّين، أسأل نفسي: ماذا يعمل هؤلاء؟ أيَّ ساعة يحضرون إلى مكاتب وسائلهم الإعلاميَّة؟ متى استطاعوا مقابلة هذه الشَّخصيَّة أو تلك ليستقوا منها معلومات؟ متى قرأوا الصُّحف والتقارير، أو شاهدوا أو سمعوا، تفاصيل التطورات الميدانية والسياسية؟ وهل يكفي سؤال خاطر عبر الهاتف، أم أن "التَّعليمة" تصل معلبة؟

وهؤلاء الإعلاميُّون ينسون أن ما من أحد يمكنه أن يصنع سلامًا للآخرين، إن لم يحيَ سلامَه الداخلي، فيكون متصالحًا مع نفسه أوَّلًا. صحيح أنَّ من ميزات الإعلاميِّ أن يسعى إلى السَّبق الصَّحافيِّ، لكنَّ هذا السبق قد يؤدِّي أحيانًا إلى فتنة، يكون المجتمع في غنًى عنها، وسط ظروف دقيقة. وعليه، ينبغي له هنا أن يُؤْثِرَ السَّلام في مجتمعه، على "خبطة" صحافيَّة، قد ترفع من اسمه وتجعله على كلِّ شفة ولسان، لكنَّها قد تريق دماء وتقطع أعناقًا وشفاهًا وألسنة.

وقبل كل شيء، على الإعلامي أن يتعامل مع الأحداث بمحبَّة، لا بحقد، وبموضوعيَّة لا بتعصب أو تحيُّز، وبنظرة شاملة، لا من زاوية شخصيَّة محض.

وكم مرَّة، وأنا أصادف إعلاميِّين على هذه الشَّاكلة، أتذكر ما كتبته في ديواني "جديد الجاهلية"، تحت عنوان "سُلْطَةُ الأَفَاعِي":

خَرَجَ الْكَلامُ، سُمُومُهُ الْمَسْعُورَهْ،

مِنْ جُحْرِهِ، وَاحْتَلَّ صَدْرَ الصُّورَهْ

زَمَنُ الأَفَاعِي مَا انْتَهَى، وَيْحِي: لِسَانٌ -

عَاهِرٌ... وَصَحَافَةٌ مَأْجُورَهْ.

وهل من عجب حين يكون هؤلاء ينتمون إلى أمَّة "طويلة عريضة"، حكام بعض دولها في وادٍ، وشعوبها في قعر وادٍ. أمَّة يناهض هؤلاء المثقَّفون والإعلاميُّون، المذكورون أعلاه، سياساتها وأنظمتها، لكنَّهم لا يفوِّتون سفرًا أو دعوةً إلى لقاء في ربوعها، أو عشاء على مائدة سفيرها، أو استجداءً لجائزةٍ من إحدى فعاليَّاتها الثَّقافيَّة... وطال عمرك وعمر القرَّاء.

وحين تتبحَّر أكثر في مواقف بعض أنظمة تلك الأمَّة، تسأل نفسك: هل يملك الشَّيطان الأصغر كلَّ هذا المال الذي ينفقه على الترسانة العسكرية؟ وهل الشَّيطان الأكبر كرمٌ على درب، ليفتح له خزائنه، يغرف منها ما يشاء؟ الشَّيطان الأكبر بخيل، يتَّكل على هذه الأنظمة، ليموِّل حرب الشَّيطان الأصغر.

ويحلو السؤال:

أُمَّةٌ، دَفٌّ يُدَاوِيهَا وَصِنْجُ

وَاسْمُهَا – يَا وَحْدَهَا – هَرْجٌ وَمَرْجُ

قَمْحُهَا شَوْكٌ، أَخُبْزًا بَعْدُ تَبْغِي؟

أَوَدِبْسًا مِنْ ضُرُوعِ النِّمْسِ تَرْجُو؟

وكما الحال العربيَّة، حال ما يسمى بالغرب. فيا أيُّها الغرب، "تحيَّة" لبُعد نظرك وثقابة بصيرتك وحسن قراءتك طالع الشُّعوب والدُّول والمصائر. عَوْلَمْتَ نفسك، وتريد أن تعولمَ العالم بأسره وتجعلَه صورة عنك، تؤمن ظاهريًّا بمبادئ إنسانيَّة نبيلة، لكنَّها تخفي وحشًا لا يشبع لحمًا ودمًا وعظامًا، وجَشَعًا لا تبلُّ ريقُه بئر نفط، ولا يعطِّر أنفاسه أنبوبُ غاز، ولا يرضي أصابعه وعنقه بريق ذهب من عيار 24 قيراط، مرصَّع بألماس مناجمه في أغنى قارَّة يقطنها أفقر الشعوب، ولا قمح يشبعه، ولا حرير يغريه، ولا مطابع العملة الخضراء "تلحِّق" على مجونه السِّياسيِّ وعربدته الاقتصاديَّة.

نحن اليوم في زمن ما يتركه الشَّيطان الأكبرُ من فضلات على مائدته لدول الغرب المأسوف على قيمه وإنسانيَّته. 

غرب جشعة سياسته إلى الثَّروة وعطشى إلى السُّلطة وجائعة إلى تطويع الشُّعوب والدُّول، بما يناسب مصالحها، ولو أطلقت العنان لحاقد موتور، أو لجهلة تكفيريِّين، يعيثون في الأرض إرهابًا وتسلُّطًا، ويهدِّدون بتكوينهم الثَّقافي وسلوكهم الاجتماعي الأحاديِّ، كيانات نماذج في التَّنوُّع والحياة المشتركة وحقِّ الاختلاف، كمثل لبنان الذي سعت وتسعى تلك السِّياسة الغريبة العجيبة إلى التَّضحية به، لحلِّ مسائل أخرى على حسابه. ولم تدرك بعد تلك السِّياسة الغبيَّة العمياء أنَّ لبنان هو "الصَّخرة التي عُلِّقت بالنجم" (تحيَّة إلى سعيد عقل)، لتردَّ بروحانيَّة الأرض التي ترسو عليها، وبانفتاح الشَّعب الذي يحيا فيها، عن ذاك الغرب، عواصفَ التَّشدُّد ورياح التَّعصُّب وأعاصير التَّكفير وموجات الجهل وتسوناميات الحقد... حتَّى إذا ما سقطت - ولن تسقط والله - اجتاحت تلك الأنواء الغرب، والتهمته ودمَّرت حضارته وتاريخه، فيحلّ تمثال ابن لادن مثلًا محل َّتمثال الحرِّيَّة في نيويورك، ويُبنى كهف تورا بورا على أنقاض مُتحف اللُّوفر في باريس، ويُدرَّس سيف "بوكو حرام" محل نسبيَّة أنشتاين ومعادلة أقليدس في الجامعات والمدراس... ويتولَّى قيادة هذا الغرب الشَّيطان الأصغر.

نحن اليوم في زمن ما يتركه الشَّيطان الأكبرُ من فضلات على مائدته لدول الغرب المأسوف على قيمه وإنسانيَّته. رحم الله زمن صراع الجبارين:

قُلْ مَتَى تَمَّتْ فُصُولُ الصَّفَقَهْ؟

بِيعَتِ الأَرْضُ بِسِعْرِ الشَّفَقَهْ.

رَدَّ، وَالْبَسْمَةُ تَعْلُو فِلْسَهُ:

عِنْدَمَا وَافَقَ شَنٌّ... طَبَقَهْ!

وأما ذاك النَّتن، الشَّيطان الأصغر، فيا أيُّها الأرعن الذي شهد بأمِّ عينه، أكثر من مرَّة، كيف تَحطَّم حقُّ القوَّة، أمام قوَّة الحقِّ، ولم يتعلَّم ولم يعتبر... لأنَّ حبَّ الكرسي، والطمع بالتَّجديد لقفاه الثقيلة عليها، خوف يذهب إلى السِّجن، أعمياه.

وكم ذكَّرني وجهه، وهو يجرجر أذيال خيبة، بعد "إبداعاته" في غزَّة ولبنان، بقصيدتي "مُقْتَضَى الشَّيْءِ":

نَحَارُ - وَاللهِ - إِذْ نَرَاهُ

أَوَجْهُهُ ذَاكَ أَمْ قَفَاهُ؟

فَكَيْفَ، قُلْ لِي، تُرِيدُنَا أَنْ

نَبْنِي عَلَى الشَّيْءِ مُقْتَضَاهُ؟

هؤلاء جميعًا يعملون لحفظ رؤوسهم، لأنَّ في الجوِّ ما يشي بأنَّ ثمَّة تغيير دول.

وحده ابنُ لبنان الصامد، جنوبًا، نبطيَّة، بقاعًا، ضاحيةً، وأينما كان، ولو مهجَّرًا، ما بدَّل تبديلا، ولسان حاله: عند تغيير الدُّول، إحفظ مبدأَك؟

ولسان حاله أيضًا يردِّد باللُّبناني الفصيح:

فيك تِهْدُمْ بَيْتْ

فيك تِجْرُفْ بَيْتْ

فيكْ تِمْحيهْ

بْتِكْمَلْ بِحِقْدَكْ دايرا...

بيضَلّ زاكرتي وْإِلي

وْعِمْري وأَهْلي فيهْ

وْما فيك تِمْحي الزّاكرا.

بَيْتي إِلي بِأَرْض كِلّا طاهرا...

سْمِعْت يا بْن "الْعاهرا"؟