رحلت. ألله معك. وتركت في أعيننا عبرات، وفي نفوسنا عبرًا. أمَّا الابتسامات، فتكفينا منها واحدة أنَّنا ودَّعناك بها، لأنَّنا ما تعوَّدنا إلَّا أن نكرم وفادة الضَّيف.
الدَّمع كان كثيرًا، ليس أوَّله على وضع عام، أقلُّ ما يقال فيه أنَّه قمَّة في التَّفاهة. وليس آخره على أحبَّة، كثيرهم تحت التُّراب، وكثيرهم الآخر غربتهم لقمة العيش والطُّموح والأفق الذي ما سُدَّ يومًا في وجه لبنانيٍّ، وكثيرهم الثَّالث بيتهم في العراء...
رحلتَ، يا عام 2024، بعد ثلاثمئة وخمسة وستِّين يومًا أمضيناها معًا، تحت سماء وطننا الحبيب لبنان (جملة اعتراضيَّة من تصريح شبه يوميٍّ لسياسيِّين يحبُّونه أيَّما حبٍّ)، وتمتَّعنا بمسلسلات:
- الخلافات الدَّائمة المبرمجة.
- المواقف الواضحة الجريئة الباعثة على التقيُّؤ لكثرة تردادها ببغائيًّا.
- صولات مصارفنا وجولات خبراء المال لدينا، وإطلالات إعلاميِّين يحلِّلون، ولا يفقهون شيئًا، على طول حدود الوطن، وما أبعد من الحدود، بالدُّولار واليورو واللِّيرة اللُّبنانيَّة.
- لا جلسات التَّشريع (بالرَّاء لا بالنُّون) النِّيابيَّة، إلَّا حين يدعو قالب الجبنة ممثِّلي الشَّعب إلى تقاسمه، أخوة في السَّراء والضَّراء، قسمة "الحق"، لئلَّا نقول يقترعون على ثوب النَّاس.
- جلسات حكومة تصريف الأعمال، إذا ما قيض لها الانعقاد، يومًا ما، بين حرد هذا، وسفر ذاك، ومقاطعة ذلك، حتَّى بات التئامها هجنة، وقد يُعيَّن لذلك الالتئام عيد وطنيٌّ يضاف إلى رزنامة الأعياد الرَّسميَّة.
- المواكبة الميدانيَّة والرُّؤيويَّة لمفاعيل الزَّلازل التي ضربت المنطقة بأسرها، بسقوط النِّظام السُّوري، وتدمير غزَّة، وجزء كبير من لبنان.
- ويبقى أننا ننتظر اجتماع الهيئة العامَّة للمجلس النِّيابيِّ لانتخاب رئيس جمهوريَّة، في 9 كانون الثَّاني 2025، بعد سنتين وشهرين وتسعة أيَّام من الشُّغور الرئاسي... والسؤال: هل بين المطروحين، مرشَّحين رئاسيِّين، من تجتمع فيه ثلاث صفات: القداسة والمعرفة والبطولة؟ أشكُّ... وعليهِ، يا ما أحلى انتظار غودو.
تمتَّعنا، يا صاح، أليس كذلك؟ والمتعة لمَّا تنته. فهذه المسلسلات مكسيكية الطَّابع والهوى، أو تركيَّتُهما، حلقات بالمئات والألوف لا تنتهي حتَّى تبدأ من جديد. والإنتاج وافر، ومحطَّات العرض كثيرة، ولو انتفى الطَّلب، والمخرج الواحد الأوحد يلحِّق عليها كلِّها، ما شاء الله، وما تعب بعد. لعبة مسلِّية ومفيدة له، ولو كره الكارهون. فليبلِّطوا البحر ويدقُّوا رؤوسهم بالحائط... القائم بين الدَّولة والشَّعب من زمان.
وموعدنا معها ومع غيرها من المسلسلات، على مدار السَّنة الجديدة. قل إن شاء الله، وانتظر البصَّارات وقارئات الفنجان والغيب والضَّاربات بالرَّمل والمندل، ليتوقَّعن كلَّ ذلك، على محطَّات العرض الآنفة الذِّكر، لا بل يتنبَّأن بحدوثه. عافاهنَّ الله.
رحلت أيُّها العام، وتركت لنا كلَّ هذه العبرات. ولكن أين العبر؟ العبرة، ولو وحيدة، هي أنَّ كلَّ سنوات عجاف إن لم تُمِت الإنسان، تقوِّه... وها نحن أقوياء في انتظار سنوات الخير الآتي، وستأتي سبعًا، وسبع مرات سبعًا، وسبعين مرَّة سبع مرَّات... سبعًا. ستأتي وكلَّ عام وأنت بخير، ونحن أيضًا.
تراني ختامًا لا أجد سوى قصيدة عنونتها "هُمْ يَرْحَلُونَ وَلَسْنَا نَرْحَلُ"، لعلَّ من هيَّأ الأرض والميدان والسَّاحات لاحتلالات جديدة، يعي أيَّ خطأ ارتكب:
يَجِيءُ عَامٌ وَعَامٌ يَرْحَلُ
كَأَنْ خِتَامُ زَمَانِي... أَوَّلُ
أَنَا مِنَ الشَّرْقِ أُفْقٌ أَزْرَقٌ
فَكَيْفَ لَا يَخْجَلُ الْمُسْتَقْبَلُ
مِنْ نَظْرَتِي، مِنْ مَدَى عَيْنَيَّ، هَلْ
مِنْ مُرْتَقَى الْفَوْقِ فَوْقٌ أَجْمَلُ؟
عَامٌ يَجِيءُ وَبَيْتِي خَيْمَةٌ
سَقْفِي الْعَرَاءُ، وَحَسْبِي أَقْبَلُ
فَعِزَّتِي وَالْكَرَامَاتِ الْتَقَتْ
وَلَوْ جَبِينِي جِرَاحًا مُثْقَلُ
وَمَسْقِطِي شَالَ بِي أُغْنِيَّةً
مِنْ مُسْتَحِيلِ الْقَوَافِي تَنْهَلُ
وَمَا عَلَيَّ سِوَى لَثْمِ الثَّرَى
تَحَدِّيًا، وَاقِفًا، فَالْأَمْثَلُ
بِمَوْتِهِ سَوْفَ يَحْيَا دَائِمًا
وَفِي الْقِيَامَةِ قُلْهُ: الْأَكْمَلُ.
عَامٌ يَجِيءُ، وَنِعْمَ الْمُرْتَجَى
هَلْ لِلْعَوَاصِفِ رُمْحٌ يُوغِلُ
فِينَا؟ كَأَنَّا بَقَايَا غُصَّةٍ
كَأَنَّ فِي صَدْرِنَا يَسْتَكْمِلُ
فِعْلَ الشُّرُورِ، فَلَمْ يَشْبَعْ وَلَا
ارْتَوَى... لَهُ الْقَتْلُ دَرْبٌ أَسْهَلُ.
عَامٌ يَجِيءُ، وَعَامٌ يَنْطَوِي
وَمِنْ صَبَاحِي تَرَانِي أَنْهَلُ
شَمْسًا وَمَاءً، وَخُبْزًا مُشْبَعًا
خَمِيرَةً... فَجَبِينِي أَجْبُلُ
وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حَقِّي صَادِحًا
وَشِبْرِ أَرْضٍ عَلَيْهِ أُشْعِلُ
عُمْرِي بَخُورًا، وَصَوْتِي شَمْعَةً
فَإِنْ قُتِلْتُ، فَلَا... لَا أُقْتَلُ
يَسْتَعْمِرُونَ، وَمَهْمَا اسْتَعْمَرُوا
هُمْ يَرْحَلُونَ، وَلَسْنَا نَرْحَلُ.