هي فصول من سيرة الغيم، من سيرته مع الغيم، هو من وُصف بـ"كليمِ الغيم"، شاعرًا قامةً وأستاذًا جامعيًّا، وناقدًا مرجِعًا، الشَّاعر الدُّكتور جودت فخرالدِّين، أحد كبار شعرائنا الَّذين ما زالوا على قيد الحياة والعطاء.
من جنوب لبنان إلى أربع جهات الشِّعر، مسيرةٌ بدأت عام 1979، ولَمَّا تزل زاخرة بالعطاء والتَّجديد من ضمن الأصول، والتَّجريب الهادف لا العبثيِّ، بلغة يظلِّلها الشَّجر ويرتاح إليها الحفيف، ويتبعها الخرير، وتغرِّد بها العصافير.
لكنَّ مضمونها، وإن تنوَّعت موضوعاتُه، يحاكي بيتًا للمتنبِّي: "عَلَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحْتِي، أُوَجِّهُهَا جَنُوبًا أَوْ شَمَالَا". وهو القائل بعد ألفِ سنة ونيِّف على أبي الطَّيِّب "سَأَمْضِي، وَتَمْضِي مَعِي خِبْرَتِي فِي الْحَيَاهْ. وَلَمْ أَخْتَرِعْ بَعْدُ مَرْكَبَةً لِلنَّجَاهْ./ وَلَكِنَّنِي لَمْ أَضِعْ، ذَاكَ أَنِّي هَزِئْتُ بِكُلِّ اتِّجَاهْ". شاعرُ الغيم والقلق الإنسانيِّ الوجوديِّ، شاعرُ العزلة والحَيرة والذِّكريات، شاعرُ التَّأمُّل والولاداتِ المتتالية.
ولد عام 1953 في بلدة السُّلطانية الجنوبيَّة، في قضاء بنت جبيل. درَّس مادة الفيزياء الحائز فيها شهادة ماجيستر، في التَّعليم الثَّانوي، وعمل في مركز الأبحاث اللُّغويَّة والتَّربويَّة في بيروت، وشارك في تأليف بعض المعاجم. ودرَّّس في الجامعة اللُّبنانيَّة بعد نيله شهادة دكتوراه من جامعة القدِّيس يوسف عام 1985 في الأدب والنَّقد العربيَّين، تحت إشراف الشَّاعر أدونيس.
شغِف، صغيرًا، في السُّلطانية، بالطَّبيعة وبالأدب العربيِّ
جودت فخرالدِّين مدينيٌّ، إذ عاش في بيروت طويلًا، فارتدى ثوبَ المدينة، لكنه بقي قرويًّا نقل معه من مسقطه السلطانيَّة، حيثما حل، طرحة الضَّباب وخصور الشَّجر وضحكات الحقول وتراتيل المطر وأحلامًا تجري خلف الفراشات والعصافير؟
شغِف، صغيرًا، في السُّلطانية، بالطَّبيعة وبالأدب العربيِّ، وإذ تخصَّص بداية في الفيزياء، يبدو أنَّ الجاذبيَّة هي التي شكَّلت جامعًا مشتركًا وترسُّلَه المبكر للشِّعر. فالتقيا في شخصيته ونصه، وتميَّز بهما. ووجد فيهما ما يمكن أن يجيب عن تساؤلاته في الخلق والكون والجمال... فالفيزياء يمكن أن تعضد الشِّعر، ويمكن الشِّعر أن يكون متلائمًا جدًّا مع الفيزياء.
درَس في الجامعة اللُّبنانية ودرَّس فيها، لكنه حصل على شهادة الدُّكتوراه في الأدب العربي من جامعة القدِّيس يوسف، بإشراف الشَّاعر أدونيس، وهذا شرف ربَّما لم يتح لكثر مثلِه. فالحسُّ النَّقديُّ لدى أدونيس الَّذي تعرَّف إليه قبل أن يشرف على أطروحته وعمل معه في مجلَّته "المواقف"، والَّذي شجَّعه على إعداد تلك الأطروحة، فسح في المجال أمامه ليرى إلى الأمور من نوافذ جديدة، خصوصًا أنَّ جودت فخرالدِّين كان معجبًا جدًّا بحسِّ أدونيس النَّقدي. أدونيس الذي جعله لاحقًا ينصرف إلى الاهتمام بالنَّقد ويضع فيه كتبًا، علمًا أنَّ صاحب "مهيار الدمشقي" كان ينتقد تجاربه الخاصَّة بنفسه بين كتاب وآخر...
وعلى الرَّغم من ذلك، لا يعدُّ جودت فخرالدِّين نفسه ناقدًا، ويعيب على النقاد تأثُّرهم بالمناهج الغربيَّة، خصوصًا أنَّهم كثيرًا ما يسيئون تطبيقها على النُّصوص العربيَّة.
البارز في كلِّ أعماله الشِّعريَّة ذاك القلق المبكر الَّذي انتابه وما زال يرافقه مذ قصَّر عن حبِّ إحداهنَّ، (ديوانه الأول "أقصِّر عن حبِّها")، إلى أن شاء استراحة في "حديقة السِّتِّين" (من كتبه الأخيرة). فمنبع القلق الَّذي رافقه منذ بداياته، والَّذي وصفه الشَّاعر النَّاقد أنطوان أبو زيد بالحميم والدَّاخلي والموشَّح برومانسيَّة "يقنِّنها حضور الذَّات القويِّ حينًا والمظلَّل أحيانًا، والمتواري حينًا بعد آخر"، كان النَّزعة إلى البحث في كلِّ شيء، لأنَّ الحياة هي فنُّ البحث عن المعرفة.
حين صدرت مجموعاته الشِّعريَّة كاملة في مجلَّدين، انتقى النَّاشر آراء تختصر شعره لكبار في النَّقد والأدب، أحاطت، ولو مختصرة، بكلِّ جوانب شعره. فكتبت الدُّكتورة خالدة السَّعيد حين تناولت مجموعته "فصول من سيرتي مع الغيم"، أنَّه يلتمس الدُّروب المجهولة والمصائر الغامضة، وأنَّه يبحث عن ذاته في مرايا الغيم وشرفات الوحدة. ووصفته بأنَّه "كليم الغيم".
أمَّا الدُّكتورة زهيدة جبور درويش، فنوَّهت باستيلاده الدَّهشة مما هو يوميٌّ، فيستحيل الحدث العابر بوابة عبور نحو الأعمق والأبهى في الذَّات والعالم. فهو يعيد ابتكار الرُّومانسيَّة والعلاقات بين الأشياء والعناصر، وهو الشَّاعر أكثر منه ابن أيِّ اختصاص آخر.
ويقول جودت فخرالدِّين إنَّ شعرنا المعاصر محاصَرٌ بأسوأ الظُّروف وأقساها، في مختلف المستويات، وإنَّ الثَّقافة العربيَّة إجمالًا تعيش اليوم أصعب حالاتها، وأكثرها تعقيدًا. ويتمنَّى على الشِّعر المعاصر أن يواجه الضُّغوط، ويَقوى على المصاعب، ويقدر على الكشف والخَرق وهدم الحواجز، آخذًا على قارئ الشِّعر العربيِّ الحديث أنَّه شبيهٌ به، غامضٌ مثله، منعزلٌ أو معزولٌ مثله، وأحيانًا مفاجئٌ مثله. فالشِّعر يبقى من الفنون الرَّاقية، في نظره، وإن استسهله البعض وادَّعاه كلُّ من حمل ورقة وقلمًا. ومشكلة الشِّعر عالميَّة وليست عربيَّة فحسب.
كذلك يقول جودت فخرالدِّين عن نفسه "أنا اللُّغة والوزن وأعشق القوافي". كأنِّي به يتحيَّز إلى موزون الشِّعر وأصوله، من دون أن يُنكر ما طرأ على المألوف منه من أساليب وأنماط تستوحي تجارب الغرب، من مثل ما سميَّ الشِّعر الحر أو القصيدة بالنَّثر. فالوزن والقافية لا يأسرانه، بل يحرِّرانه ربَّما، في حين يرى البعض أنَّ الشِّعر بالنَّثر يفيد المعنى أو الغاية أكثر، لتحرُّرِه من الضَّوابط والقيود.
ويصف النَّاقد والشَّاعر اليمنيُّ عبدالعزيز المقالح لغة جودت فخرالدِّين بأنَّها صافية بسيطة، تساعد على التَّدفُّق الهائل للصُّور الشِّعريَّة، المركَّبة والمتوالية، في شعريَّة عالية. وتُلاحَظ كثرة التَّكرار في نصوصه، فتجيء مقصودةً من أجل ترسيخ فكرة محوريَّة في ذهن المتلقِّي، أو تردادًا لصرخة وجع يطلقها متألمِّ، أو حتَّى أسلوبًا واعيًا يشي بالبساطة، من منطلق أن النَّصَّ الشِّعريَّ يجب أن يكون له نظام.
أُعدَّت عن جودت فخرالدِّين أطاريح وكتب، بينها بحث في إيران عن نزعة المقاومة في شعره، وقد اشتُهر منذ البداية بأنَّه كان أحد أركان شعراء الجنوب. فتسمية "شعراء الجنوب"، في رأيه، لم تقم على أسس فنِّيَّة، إنَّما ارتبطت ببعض الموضوعات، أو بانتماء هؤلاء الشُّعراء إلى قرى جنوبية. لكنَّ كلًّا منهم خطَّ لنفسه لاحقًا مسارًا مختلفًا عن الآخر. وكلُّ شعر حقيقي هو مقاومة في كلِّ اتجاه، وعليه، فلغة مقاومة القلق والخوف واليأس، لا تختلف عن لغة المقاومة الميدانيَّة لمحتلٍّ أو غاصب.
حاز جودت فخرالدِّين، عام 2014، جائزة الشَّيخ زايد للكتاب في فرع أدب الطِّفل، عن ديوانه "ثلاثون قصيدة للأطفال" الَّذي حمل رسائل جماليَّة وتربويَّة توقَّف فيه عند مظاهر يراها الطِّفل ببصره وحواسِّه وخياله. كأنِّي به عاد طفلًا يلهو وهو ينظم تلك القصائد، مستفيدًا من كونه أستاذًا ممَّا لم يستطع إيصاله إلى طلَّابه الكبار، فخصَّ به جيلًا لن يمرَّ بصفوفه.
بعدما نشر "حديقة السِّتِّين"، بقي القلق مرافقًا له في كلِّ ما كتب، وجاء وبأ الكورونا، ليحرِّك فيه موضوعي العزلة والموت... فأصدر ديوان "أكثر من عزلة، أبعد من رحلة"، وانصرف من ثمَّ في كتابه الأخير "هندسة تليها تقاطعات" إلى القصيدة الكثيرة المكثَّفة، محاولًا فيه تصوير العالم الذي محوره بيت الشَّاعر، أو إعادة تكوين ذاك العالم.
أما إصداراته فهي، في الشعر: أقصِّرُ عن حُبِّكِ، أوهام ريفية، للرؤية وقت، قصائد خائفة، أيامٌ ومياهٌ وأصوات، منارةٌ للغريق، سماوات، ليس بعد، الأعمال الشعرية، ما بين عمر وآخَر (مختارات شعرية)، فصولٌ من سيرتي مع الغيم، ثلاثون قصيدة للأطفال، حديقة الستين، هذا أنا، أكثر من عزلة، أبعد من رحلة، "هندسة تليها تقاطعات".
وفي الدِّراسات: شكل القصيدة العربيَّة في النَّقد العربيِّ حتَّى القرن الثَّامن الهجريِّ، مقدّمة لكتاب "مفاتيح العلوم" لأبي عبد الله الخوارزمي، الإيقاع والزَّمان...
فالسَّماء لن تدع جودت فخرالدِّين وشأنَه... بعد عمر مديد، كما عنون إحدى قصائده.