دفع اختفاء الفوائد المصرفية باللبنانيين إلى البحث عن بدائل مجدية للاستفادة من أموالهم النقدية. بـ"السراج والفتيلة" حاولوا على مدار السنوات الماضية تبصّر مسار الاستثمار المجدي، فقادتهم ظلمات المشاكل إلى طريق مسدود. فعادوا سريعًا إلى الدرب الأسهل الذي "شبّوا على سلوكه"، بتوظيف مدخّراتهم بالريع، "علّهم "يشيبون" على غلّة تعوّض خيباتهم الكثيرة. التقليديون منهم اشتروا ذهبًا بما يملكون. المجدّدون عمدوا إلى شراء العملات الرقمية عبر الحسابات الألكترونية الخاصة. وخاض المحترفون، وشبه المحترفين، غمار التداول عبر الشركات المتخصصة، بالأسهم والسندات العالمية لمختلف الأصول الرقمية والمادية المرجّحة للارتفاع في المستقبلين القريب والبعيد.

الذهب يستقرّ على انخفاض

لم تخيّب الأسواق المالية العالمية ظنّ اللبنانيين في العام 2024. فأسعار الذهب، والعملات الرقمية، تجاوزت التوقعات وحقّقت للمستثمرين فيها أرباحًا هائلة. المعدن الأصفر وصل سعره في تشرين الأول إلى 2784 للأونصة، متخطيًا التوقّعات الإيجابية. وعلى الرّغم من انخفاضه إلى نحو 2650 دولارًا راهنًا، فإنّ السعر ما زال مرتفعًا. ومن المتوقّع، بحسب أسوأ السيناريوهات المتعلّقة بقوة الدولار وعدم تخفيض الفائدة قياسًا إلى مؤشرات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية، أن يبقى الذهب فوق عتبة 2600 دولار مع نهاية هذا العام. وقد اعتبر المدير الإداري في "غولد سيلفر سنترال" – سنغافورة، بريان لان، أنّه "من المرجّح أن تظلّ أسعار الذهب في هذه المستويات مع ميل نزولي على الأقلّ حتى نهاية كانون الأول. ووصف التراجع النسبي بأسعار الذهب من قبل بنك "إيه إن زد" بأنّه "استراحة محارب على الأمد القريب" بما يوحي أنّه سيستأنف مشواره التصاعدي.

لحفاظ على قيمة المدخّرات وزيادتها خلال العام المطل يتطلّبان التصرف بوعي، وتنويع المحفظة الاستثمارية لمن يملك رأسمالًا كبيرًا

العملات الرقمية تحلّق

المفاجأة الكبرى غير المتوقّعة فجّرتها عملة البيتكوين التي تجاوزت 100 ألف دولار عقب إعلان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب عزمه تعيين المحامي الجمهوري بول أتكينز، المؤيد لتطوير العملات الرقمية، رئيسًا لهيئة تنظيم الأسواق المالية. وكان سعر العملة الواحدة من بيتكوين قد زاد نحو 45 بالمئة خلال أربعة أسابيع منذ فوز ترمب، من 55 ألف دولار إلى 100 الف. ومن المتوقّع أن تشكّل قرارات ترمب القاطرة لارتفاع أسعار بقيّة العملات الرقمية في أنحاء العالم.

غياب الثقافة المالية يقلّص فرص الربحية

تشير المعلومات المجمّعة من أكبر شركات التداول إلى ميل اللبنانيين للاستثمار في الذهب، والعملات الرقمية. وعلى الرّغم من تحقيقهما هذا العام أرباحًا مجزية، فهما لا يشكّلان بالضرورة الاستثمار الأفضل. خصوصًا بالنسبة إلى اللبنانيين، لسببين أساسيين:

الأول، الارتفاع الكبير بأسعارهما مقارنة بالموارد المحدودة للاستثمار. وهذا ما يدفع كثيرين إلى الإحجام عن الاستفادة من أموالهم. ويفضّلون الاحتفاظ بها نقدًا بالدولار. مع ما يحمله هذا الأمر من مخاطر فقدان القيمة.

الثاني، وجود أصول أرخص بما لا يقاس تحقق أرباحًا أعلى بكثير من الناحية النسبية.

خلافًا لما يعتقده البعض، حقّق معدن الفضة منذ بداية العام إلى تشرين الثاني العائد الأكبر بنسبة 37 مقارنة بـ 33 في المئة للذهب. وتبلغ قيمة أونصة الفضة 31.2 دولاراً. وهذا يعني أنّه من اشترى بـ 100 دولار فضّة في كانون الثاني الماضي، حقق ربحًا بقيمة 37 دولارًا. ومن الممكن لأصحاب الرساميل الصغيرة والمحدودة الاستثمار في الفضة لزيادة مدخراتهم. والأهم الحفاظ عليها من الضياع. "إلّا أنّ المشكلة كثيرًا ما تكمن في الحجم. خصوصًا إذا كنّا نستثمر بالأصل المادّي وليس العقود"، يقول المستشار المالي ميشال قزح. "المساحة التخزينية التي نحتاج إليها للفضّة بقيمة 90 ألف دولار توازي حجم مولد 500 KVA، فيما لا تتجاوز بالنسبة للذهب حجم علبة محارم". وفي ظلّ غياب الثقافة المالية للاستثمار في العقود الفورية أو الآجلة، يحجم المواطنون عن شراء الفضة على الرّغم من العائد الكبير المتوقّع أن يحقّقه هذا المعدن في الأعوام المقبلة. إذ "من المنتظر أن يتجاوز سعر الأونصة 50 دولارًا مع نهاية العام المطل"، بحسب قزح، "نتيجة زيادة الطلب على الإنتاج بنسب كبيرة. فالتراجع السريع في المخزون بالتوازي مع محدودية الإنتاج من المناجم، يقابل بطلب هائل من صناعة السيارات الكهربائية، وأنظمة الطاقة الشمسية، والأجهزة الالكترونية، والموصلات وأشباهها، التي يدخل الفضة في صلب تكوينها".

الارتفاع في أسعار الفضة لا يعني تحجيم أسعار الذهب، بل العكس. فاستمرار الإدارة الأميركية في طبع الدولار بمعدل 1000 مليار دولار كلّ 100 يوم تذهب إلى تمويل عجز الموازنة، ودعم الحروب التي تصبّ في مصلحة شركات تصنيع الأسلحة، وهذا ما سيؤدي إلى تفاقم المخاطر التضخّمية على مستوى العالم وتراجع قوة الدولار، ممّا يعزز فرص الذهب بالارتفاع مستقبلًا.

الاستثمار بالأصول الزراعية

بالإضافة إلى الذهب والفضّة، فإنّ الاستثمار بالمنتجات الزراعية، ولا سيما الكاكو والبن، قد يكون رابحًا جدًا خلال العام الآتي نتيجة التبدلات المناخية التي تدفع إلى تراجع الانتاج. فحصاد الكاكو الذي بدأ هذا الشهر في ساحل العاج، أكبر الدول إنتاجًا، غير مبشّر، بسبب الفيضانات. وهذا ما رفع سعر الكاكو إلى 9200 دولار للطن الواحد، من 2000 دولار في مطلع العام 2023. والأمر نفسه ينسحب على البنّ الذي ارتفع سعره في البورصة العالمية إلى 306 دولارات، من 150 دولارًا مطلع العام 2023. وإذا كان من المستحيل شراء "شوالات" المنتجات الزراعية، فإنّه بالإمكان شراء عقودها من الأسواق المالية العالمية المتوفرة. ولا يحتاج الموضوع إلّا إلى نصائح الاختصاصيين. "وهذا، يا للأسف، ما نفتقده في لبنان في حين يزدهر بشكل كبير في دول الخليج العربي"، برأي قزح. "فليس المطلوب من أصحاب الرساميل المعرفة العميقة بالأسواق المالية، وكيف تتأثر سلبًا وإيجابًا بمئات المتغيّرات التي تبدأ بالحروب، وتمرّ بالمناخ، وتصل إلى التضخّم وطبع الأموال والمضاربات... . ومن الممكن إيكال هذه المهمّة إلى أصحاب الاختصاص بكلفة أولية لا تتجاوز 1 في المئة من أصل المبلغ وتنخفض مع السنوات إلى نصف في المئة. وأهمّية النصح "لا يقتصر على تنويع الاستثمار، إنّما على حماية المستثمر من الخسارة، من خلال تحديد حجم المخاطر الذي يبدأ بالصفر ويصل إلى 100 في المئة".

العملات الرقمية تعود إلى قائمة النّصح

المجال الوحيد الذي لم يكن يُنصح به غالبًا من قبل الكثير من الشركات المالية، هو العملات الرقمية لأنّها "قصر من ورق يمكن أن ينهار في أيّ لحظة". لكنّ هذا المسار يبدو أنّه سيتبدّل في الأيام المقبلة "مع عملية التبنّي الواسعة التي تشهدها العملات الرقمية من قبل أقطاب الاقتصاد العالمي والسياسيين والشركات"، بحسب قزح. فشركة أمازون تبنّت عملة XRPالتي ارتفعت من نصف دولار إلى 2.5 وتتجه إلى تحقيق 5 دولارات. وتبنّت شركة تسلا "دوج كوين"، فيما تبنّى ترمب شخصياً "البتكوين". وهذا ما سيحفّز أصحاب الرساميل على الاستثمار في هذه العملات. لكن يبقى الأهم، بحسب قزح "الذهاب نحو العملات الموثوق بها والمتبنّاة من جهات معروفة مثل: "بيتكوين"، "دوج كوين"، و"أكس آر بي"، و"إيثيريوم"، و"سولانا".

يبقى أنّ الحفاظ على قيمة المدخّرات وزيادتها خلال العام المطل يتطلّبان التصرف بوعي، وتنويع المحفظة الاستثمارية لمن يملك رأسمالًا كبيرًا، والإستعانة بالمستشارين بشريين كانوا أو آليين، وعدم التهور، وتحديد حجم المخاطر بدقة.