في ظلّ القلق من المتغيّرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط مع سيطرة جبهة تحرير الشام على السلطة في سوريا، يبرز القلق على أوضاع الأقلّيات الدينية في منطقة المشرق، وخصوصًا في سوريا، رغم وعود القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا قائد جبهة تحرير الشام أحمد الشرع المعروف بأبي محمد الجولاني للوفد الأميركي الذي زار دمشق بعد بضعة أيام على سقوط الرئيس السوري بشار الأسد. فعلى الرغم من هذه الوعود طالت حوادث عدة أبناء المجموعات الدينية الأخرى، وعلى رأسها العلويون والشيعة والمسيحيون. وآخر تلك الحوادث اقتحام عناصر مسلّحة تابعة لجبهة تحرير الشام البلدة السريانية معلولا حيث مارسوا أقصى درجات الترهيب ضدّ أهاليها المسيحيين.  

في هذا الإطار، يمكن أن نفهم عظة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذوكس البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، الأحد في 15 كانون الأول 2024 في كنيسة الصليب المقدس في دمشق. وقد عكست قلق البطريرك اليازجي، ممثّل أكبر مجموعة مسيحية في بلاد المشرق، وثاني أكبر مجموعة دينية مسيحية بعد الأقباط في العالم العربي. وقد أكد البطريرك اليازجي عمق ارتباط المسيحيين بأرضهم وأصالتهم في المنطقة، إذ قال: 

"نحن ههنا في دمشق ... لسنا ضيوفًا في هذه الأرض، ولسنا أبناء اليوم ولا الأمس. نحن من عتاقة سوريا ومن ياسمين الشام. نحن من أنطاكية الرسولية، من هذه الديار التي صبغت المسكونة باسم يسوع المسيح".

وتوجه البطريرك اليازجي إلى الأخوة المسلمين، قائلًا: 

"إخوتي المسلمين، ما بين النحن والأنتم تسقط الواو، ويبقى نحن أنتم، وأنتم نحن". فنحن سويةً أصحاب تاريخٍ مشتركٍ بكلّ صواعده ونوازله، ومصيرنا مصيرٌ واحد". 

وطالب البطريرك اليازجي بالشراكة الوطنية بين جميع أبناء سوريا. 

في كلّ ما تقدّم، كان البطريرك اليازجي يفنّد جميع مزاعم الجماعات المسلّحة بندًا بندًا عبر التأكيد على أصالة المسيحيين وعمق انتمائهم إلى وطنهم ردًا على محاولات الجماعات المسلّحة التعامل معهم على أنّهم ضيوف طارئون منتقصو الحقوق. لكن كان في الخطاب ما هو أبعد من ذلك، وهو خوف على وجود المسيحيين في بلادهم، وهو الوجود المستمر منذ ألفي عام، والذي يشكّل امتدادًا لحضارات سابقة عمرها آلاف الأعوام، علمًا أنّ الكثير من مسلمي بلاد المشرق كانوا مسيحيين وتحوّلوا إلى الإسلام خلال عهود متعاقبة. 
وفي هذا السياق، يبرز دور جمهورية قبرص التي تسعى إلى لعب دور في حماية الأقليات. فمع تحوّل سوريا دولةً "إسلامية" باتت قبرص الأرثوذوكسية تشعر بقلق يرتبط بأمنها القومي. هذا ما يفسر تعيين الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليديس ممثلة خاصة له للحريات الدينية وحماية الأقليات في الشرق الأوسط، هي ثيساليا سالينا شامبوس، من أجل تعزيز المساعدات الإنسانية والتنموية للأقليات الدينية. وستعطي شامبوس برامج الصحة والتعليم وإعادة الإدماج للضحايا الأولوية، مع التأكيد على حماية التراث الثقافي من خلال المبادرات الرامية إلى ترميم المعالم الدينية والثقافية وحمايتها. كذلك ستسعى إلى تعزيز المكانة الدبلوماسية لقبرص كجسر بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، والاستفادة من المزايا الجغرافية والثقافية والتاريخية الفريدة التي تتمتع بها البلاد. 

ويتماشى توقيت هذا التعيين مع رئاسة قبرص المقبلة لمجلس الاتحاد الأوروبي في النصف الأول من عام 2026،  وهو ما يعزز أهميتها وتأثيرها. 

رحّبت الدائرة المحيطة بالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بالمبادرة القبرصية، على أمل أن يكون بمقدور الولايات المتحدة وقبرص حماية حقوق المسيحيين في المنطقة إذا عملتا معًا

وتبرز قبرص في وضع يسمح لها بتعزيز أصوات الأقليات المسيحية، والدعوة إلى الحفاظ على حقوقها، ومن المرجح أن تضمن تنازلات ملموسة لحمايتها. ويعتقد المراقبون أنّ قبرص سوف تمارس نفوذًا كبيرًا على هذه التطورات، إذ ستتعامل مع قضية بالغة الأهمية ذات أولوية عالية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية المقبلة وجماعات الضغط المسيحية القوية التي تدعمها. 

وقد رحّبت الدائرة المحيطة بالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بالمبادرة القبرصية، على أمل أن يكون بمقدور الولايات المتحدة وقبرص حماية حقوق المسيحيين في المنطقة إذا عملتا معًا في هذا المجال. وقد أكّد وزير الخارجية القبرصي قسطنطين كومبوس هذا التوجه، خصوصًا أنّ "قبرص الدولة المسيحية الوحيدة في المنطقة"، وهي في وضع فريد لقيادة الجهود الرامية إلى حماية الأقليات.  

وفي واشنطن، من المتوقّع أن تسلّط هذه المبادرة الجديدة التي أطلقها خريستودوليديس الضوء على قبرص في الإدارة المقبلة، وهذا ما يعزز التعاون بين البلدين. ولا شكّ أنّ إدارة ترامب ستقوّم الحلفاء والشركاء على أساس القيمة المضافة التي يقدمونها في مختلف مجالات التعاون والتفاوض. 

ويرى المسؤولون القبارصة أنّ المكانة الدبلوماسية لقبرص كمحاورة موثوق بها لدى الدول العربية وإسرائيل، وقربها من المنطقة ــ على بعد 60 ميلًا بحريًا من سوريا وأقل من ساعة طيرانًا من لارنكا إلى تل أبيب ــ وعضويتها في الاتحاد الأوروبي، هذه كلها مجتمعة عوامل تعزز أهميتها الإستراتيجية لدى إدارة ترامب في ما يتعلق بحماية الاقليات.