لم تكفِ سنة 2024 المشؤومة المرارات التي خلَّفتها طوال 365 يومًا، حتَّى ختمت نفسها، بمرارة ارتحال الصَّحافي الكاتب الشَّاعر جاد الحاج، عن نحو ثلاثة أرباع قرن، أمضى نصف سنوات عمره منها يتحدَّى مرض السَّرطان ويغلبه.
كان جاد الحاج، ابن قرية قيتولي الجزِّينيَّة، الذي ولد في حيِّ المزرعة في بيروت، وطالما خُيِّل إليه أنَّه ولد على شاطئ صور، "مهرجانَ" كلمة، على ما سمَّى آخر إصداراته، وكان سندبادًا على بساط المعرفة يطير ولا يرضى يحُطُّ، مجسِّدًا الغربة المتعدِّدة الوجهة، لكنَّها المقيمة في لبنان الذي أحبَّ.
صحافيٌّ جاد الحاج، شاعر، روائيٌّ، ناقد، مسرحيٌّ، قاهر الموت مرَّتين على الأقلِّ. صدر له، بالإنكليزيَّة: الهِجرة الأخيرة، شجرة الآس، يوم في نيسان؛ وبالعربيَّة: قطار الصُّدفة، ٢٦ قصيدة، الكتاب الثَّالث، واحد من هؤلاء، الأخضر واليابس، خمسة، عندما وأخواتها، ثلاثون حكاية، مهرجان؛ وبالعامِّيَّة اللُّبنانيَّة: دارج.
مذ عرفتُ جاد الحاج، من خلال صوته عبر إحدى الإذاعات المحلِّيَّة، في برنامج صباحيٍّ، عام 1977، شدَّتني إليه نبرة دافئة وسخرية كامنة، إلى أن تعارفنا وتزاملنا، بعدما جال الكرة الأرضيَّة كلَّها تقريبًا، عملًا وإقامة. ومذذاك جسد بالنِّسبة إليَّ، غربة اللُّبنانيِّ المقيمة، تطير في الفضاء الواسع وتعود إلى غصن شجرة في قيتولي، فاختصر فضاء بغصن.
وعندما نذكر قيتولي، لا بدَّ من التَّوقُّف عند ما رفدت به هذه القرية الهانئة، الصَّحافة من أعلام: لويس الحاج، أنسي الحاج، عدلي الحاج، وفي الصَّحافة والرِّواية جورج شامي وآخرين، وفي المسرح فارس يواكيم، فكانوا، في شكل أو آخر، حافزًا له لأن يترك كلَّ شيء ويتبع القلم.
لكنَّ حضور آل الحاج في صحيفة "النَّهار" لم يكن سبب دخوله عالم الصَّحافة، وبداياته في بلاط صاحبة الجلالة، إنمَّا البداية شهدتها "لسان الحال" حيث تعرَّف إلى سعيد عقل وأدونيس اللَّذين واكبا نموَّه الأوَّل.
وإن تخيَّل نفسه وُلد على شاطئ صور، قد يكون ما أصبح عليه بحارًا يغامر، متنقِّلًا بين لبنان واليونان وفرنسا وبريطانيا وأستراليا... فضلًا عن بقاع كثيرة أخرى.
نشأ مختلفًا، كي لا أقول متمرِّدًا، وأتت الأحداث لتعزِّز هذه النَّزعة لديه. فأسَّس في يفاعته جمعيَّة "لا"، مما جعله ضيف المكتب الثَّاني الذي لم يجعل منه بطلًا باعتقاله، إنَّما أوحى إليه بالسَّفر، فقصد فرنسا عام 1968، وشهد الثَّورة الطَّالبيَّة ذاك العام فيها، واعتُقل أيضًا، وقد شفعت بإطلاقه بطاقة "النَّهار" الصَّحافيَّة. وبقي جاد الحاج متمرِّدًا، إلى أن تمرَّد على ظروفه الصِّحِّيَّة، إذ عاوده السَّرطان فنهش رقبته، وأصيب بالألزهايمر، فعاد من أستراليا، ليودِّع الحياة في ثرى قيتولي.
ومن مظاهر تمرُّده كتابه الأخير "مهرجان" (2021)، الصَّادر عن "دار سارق النَّار" التي أسَّسها في اليونان مع سركون بولص، محاكاةً لأسطورة بروميثيوس الذي سرق النَّار من الآلهة ليوزِّعها على النَّاس. أسلوب الرِّواية جديد يحاول أن يقول إنَّ هذا الشَّرق أو هذا العالم العربيَّ، هو ابن الحكاية، وليس فيه رواية إلَّا في ما ندر، إنما فيه كتاب حكايا.
"مهرجان" الرِّواية تناولت سنة عدَّها جاد الحاج مفصليَّة، في رسم مسار الأحداث، هي السَّنة 1983، إذ افتتح قصر مهرجان كان السِّينمائيِّ الذي دأب الكاتب على تغطية فعاليَّاته طوال اثنتي عشرة سنة، وقد صمَّمه مهندسان شابان خالفا فيه الطَّابع البرجوازي والتقليدي للعمارة وللقصور. ثم أضرب طلَّاب الطُّبِّ في فرنسا، فحطَّموا لافتات، وقطعوا خطوط القطارات، وأخرجوا من المختبرات فئرانًا وجرذانًا... فـ"خربوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس" وحكومة ميتران. ثم وقَّع لبنان اتِّفاق 17 أيَّار مع إسرائيل. وربط بين تلك الوقائع ودور عبدالقادر الجزائريِّ الأخلاقيِّ والإنسانيِّ في تاريخ لبنان، مضمنًا الرِّواية قصَّة حبّ.
عجنت الكلمة جاد الحاج وخبزته باكرًا، وتنقَّل في رحابها، من الخبر الصَّحافي إلى التَّحقيق والمقالة، إلى القصيدة، فالرِّواية، فالمسرح، فالتَّرجمة، فضلًا عن النَّقد خصوصًا الأدبيّ والفنيّ. حياة زاخرة ومتنوِّعة، وتجربة قلَّما خاضها رجل مثله.
كتب بالعربيَّة، وبـ"الدَّارج" اللُّبناني كما سمَّاه، وطبعًا بالإنكليزيَّة والفرنسيَّة. فانطبق قوله إنَّ "اللُّغة تموت حين لا تأخذ من الحياة" على كلِّ اللُّغات، حتَّى على اللُّغة العربيَّة التي تتراجع.
في أدبه بـ"الدَّارج"، خصوصًا في خوضه مجال الشِّعر المغنَّى، حافظ على الوزن، الأمر الذي تمرَّد عليه في كتابته الشِّعريَّة بالفصحى. ويقول إن القصيدة بالنَّثر تتطلَّب تبحُّرًا وهدوءًا معينًا، لأنَّها قصيدة مكتوبة من الخارج إلى الدَّاخل وقصيدة تأمُّل واختزال، لا قصيدة منبريَّة ولا قصيدة إطراب.
تغلَّب جاد الحاج على عزرائيل مرَّتين، إذ أصابه السَّرطان في نخاعه الشَّوكيِّ، فأجرى جراحة في أستراليا، منتصف العقد التاسع من القرن العشرين، ليعاوده المرض في لبنان مطلع الألفية الثَّالثة، فعالجه على الدُّكتور نبيل حبيب الذي نصح له بالسَّكن في منزل جبليٍّ، فاختار جاد السكن في سرعل في قضاء زغرتا، مع التزام البروتوكول الدَّوائي الذي وصفه له.
كان لجاد الحاج حضور أيضًا في المسرح، تأليفًا أو ترجمة أو اقتباسًا: "بنت أصل"، "حطّ الحمام طار الحمام"، "محاكمة بيَّاع اللَّوز"، "الكرسي" المستوحاة من مسرحيَّة بالعنوان نفسه لبول أندريه أنطوان، "لوحة بيضا" المستوحاة من "فنّ" لياسمينة رضا، "جازة وجنازة"، وترجمة "مهاجر بريسبن" لجورج شحادة من الفرنسيَّة إلى الإنكليزيَّة.
نقده الأدبيُّ والفنِّيُّ لم يساير ولم يرحم، منطلقًا من ثقافة واسعة وسعة اطِّلاع وعمق. ومقالاته في هذا الإطار كثيرة، فاشتُهر بأن لا صديق لجاد الحاج إلَّا الصِّدق.
هذا السِّندباد... ما كان يليق به أن ينزوي، في آخر أيَّامه، ويرحل بصمت في قيتولي. كان عليه أن يحتفل بالموت الآتي، فينهي به كتاب مغامراته، ويدعونا إلى أن نكون شهودًا، على آخر مغامراته.
حلَّ ضيفًا على برنامج تلفزيونيٍّ أقدمه، عام 2021، بعد طول غياب، بسبب أسفاره الكثيرة، وبقي تواصلنا قائمًا على وسائل التَّواصل، إلى أن سكتت تلك الوسائل عن أيِّ اتصال مباح. كان جاد يرتِّب موته، في هدوء، لئلَّا يشغل بال أحد عليه.