هذا ما يتوقّع حدوثه مع قرار وزارة المالية باستيفاء الضرائب على استيراد المحروقات نقداً:

تدور السياسات المالية والنقدية اللبنانية في حلقة مفرغة. كلّ إجراء يُتّخذ لتصويب خلل ما، ينتج عنه انحرافات أشدّ خطورة. هذا ما حدث سابقاً مع تثبيت سعر الصرف، وسلسلة الرتب والرواتب، والدعم، وصيرفة، وموازنات الضرائب.. وهذا ما يتوقّع حدوثه مع قرار وزارة المالية باستيفاء الضرائب على استيراد المحروقات نقداً.

قبل أيّام قليلة أصدرت وزارة المالية قراراً، عدّلت بموجبه نسبة الاستيفاء النقدي للضريبة على القيمة المضافة المتعلّقة بالتصاريح الفصلية التي يتقدّم بها مستوردو المحروقات، لتصبح 100 في المئة نقداً بالليرة اللبنانية. وقد برّرت المالية الخطوة، بأنّها تأتي استكمالا للإجراءات المتّخذة بغية تعزيز إدارة السيولة، ودعم الاستقرار المالي والنقدي بطريقة مستدامة.

تنشيف الليرات من السوق تمهيداً لتسديد الحوافز

لا يمكن فصل خطوة وزارة المالية عن اتجاه الحكومة لإقرار زيادة كبيرة بالليرة اللبنانية على رواتب موظّفي القطاع العام. فهذه الزيادة التي تتراوح بين 1.6 و2.4 مليون ليرة لكلّ موظف عن كلّ يوم حضور فعلي ولمدة 20 يوماً في الشهر، ستشكّل ضغطاً على سعر الصّرف. وهي، إن كانت ستحوّل إلى الدولار على سعر صرف 86 ألف ليرة من إيرادات الدولة وليس من "احتياطيات" المركزي، إلّا أنّها ستشكّل زيادة بالطلب على السلع والخدمات. وكلّ زيادة على الأخيرة، تنعكس حكماً ارتفاعاً بالطّلب على العملة الأجنبية من المستوردين والمنتجين المحلّيين على حد سواء. خصوصاً أنً الجزء الأكبر من المواد الأولية للتصنيع المحلّي مستوردة. وكلّ دولار يدفع في السوق يتحوّل منه ما لا يقلّ عن 90 سنتا للاستيراد من الخارج. ولعلّ الدليل الأبرز تجاوز قيمة الاستيراد في العام 2022 الـ 19 مليار دولار.

أمام هذا الواقع يصبح كلّ تنشيف لليرة اللبنانية النقدية من السوق عنصراً مساعداً لسياسة لجم انهيار سعر الصّرف التي يتّبعها المركزي. ولكن في المقابل ستؤدّي هذه الخطوة إلى إلحاق الضرر بالمودعين وأصحاب الأعمال بشكل خاص، وبالاقتصاد بشكل عام. كيف ذلك؟

التوقّف عن قبول بطاقات الدفع الألكتروني

سمح تسديد جزء من الضرائب والرسوم بواسطة الحوالات البنكية إلى حساب الدولة اللبنانية خلال الفترة الماضية، إلى عودة قبول المحطات بطاقات الاعتماد – Credit Cards كوسيلة دفع. وهو الأمر الذي صبّ في مصلحة المودعين المغبونين. فتبعاً للتعميم 151 يتقاضى المودع من حسابه المصرفي بالعملة الأجنبية 1600 دولار، تدفعها البنوك على سعر 15 ألف ليرة أي 24 مليون ليرة. نصف المبلغ يُدفع نقداً، والنصف الآخر يوضع في حساب بطاقة الاعتماد للاستفادة منه في عمليات الشراء. إلّا أنّ توقّف معظم نقاط البيع عن قبول بطاقات الدفع، نظراً لمنع المصارف أصحاب الأعمال من سحب المبالغ المتراكمة في حساباتهم نقداً، أو وضع حدّ منخفض جداً لعمليات السحب، جعل المؤسسات تمتنع عن قبول البطاقات. فأصبحت خسارة المودعين مزدوجة فهم يتعرّضون مع كلّ عملية سحب إلى خسارة 83 في المئة من قيمة أموالهم على شكل "هيركات" ويعجزون عن استخدام نصف المبلغ المسحوب، أي 12 مليون ليرة بسبب تقييده في بطاقات لا تقبل في أيّ مكان.

وبالفعل لم تتأخّر محطّات المحروقات، ولاسيما الكبيرة منها التابعة لشركات الاستيراد بالإعلان عن توقّف قبولها بطاقات الدفع الألكترونية على كلّ الأراضي اللبنانية. فـ"القبول بالدفع عن طريق البطاقات يعني احتجاز أموالنا في المصارف"، يقول مستشار أصحاب المحطّات فادي أبو شقرا. وبالتالي "عدم إمكانية سحبها نقداً أو التصرّف بها لتسديد المدفوعات الضريبية لوزارة المالية عبر الحوالات البنكية، كما كان يحصل سابقاً". وإذ أسف أبو شقرا عن إرباك المواطنين وتحميلهم المزيد من الخسائر والعرقلة جراء التوقّف عن قبول البطاقات، اعتبر أنّ "المحطات براء من إجراء المالية الأخير والذي يمثّل وضع المزيد من العصي في دواليب المستهلكين".

تعزير الاقتصاد النقدي ما بين السلبيات والإيجابيات!

خطوة المالية تأتي عقب أشهر قليلة من إعطاء مجموعة العمل المالي، لبنان، فرصة لمدّة سنة لإجراء الإصلاحات المطلوبة من أجل عدم إدراجه على اللائحة الرمادية لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. والمفارقة أنّه من أولى الإصلاحات المطلوبة من المنظمة، هي "ضبط حجم الاقتصاد النقدي"، أو "الكاش". فكيف إذا كان حجم الكاش المولّد من الضريبة على القيمة المضافة يقدر بحوالي 400 إلى 450 مليون دولار يقول الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب وذلك بالاستناد إلى استيراد لبنان ما بين 3 و4 مليار دولا من المشتقّات النفطية سنوياً، يقتطع منها 11 في المئة كضريبة على القيمة المضافة بحسب سعر السوق. وعدا عن خطورة التعامل نقداً بهذا الحجم من المبالغ والذي يقدّر بحوالي 40 ألف مليار ليرة، في عمليات تبييض الأموال، فهي تضيف بحسب البواب مخاطر لوجستية تتمثّل في "نقل الأموال والاحتفاظ بها وإحصائها.. وصولاً حتّى إمكانية ضياعها. حيث تابعنا من أيام قليلة فقدان "شوالات" من الأموال بالليرة بالجمارك". ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال "استيعاب تشجيع الدولة التداول بالكاش بعملتها الوطنية"، من وجهة نظر البواب.

في المقابل فإنّ المخاطر الكبيرة للاقتصاد النقدي، والمتعلّقة بشكل أساسي بمخاطر تبييض الأموال وتهريب المستثمرين وإبعاد الشركات الأجنبية، يقابلها "بعض الإيجابيات المرتبطة بالحالة اللبنانية"، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي الدكتور طالب سعد. ومنها، تحريك العجلة الاقتصادية كون السيولة موجودة في يد الجمهور وليست خاملة في خزائن المصارف". أماّ الأهمّ برأي سعد فهو تحكّم حاملي النقد بكيفية صرف الأموال عوضا عن توجيهها بحسب رغبات المصارف. وذلك على غرار ما شهدناه سابقا من توظيف الودائع في العقار والريع وسندات الخزينة من دون أن يكون هناك مساعدة كما هو مطلوب للقطاعات الانتاجية الفعلية.

يعرّف معجم المعاني، معنى "يدور في حلقة مفرغة": هو أي شيء يكون في وضعية لا يعرف كيف يخرج منها ولا يعرف كيف يصل إلى مبتغاه. وهذا الوصف الذي ينطبق "حفراً وتنزيلاً" على الاقتصاد اللبناني لا يعود إلى القدر، إنّما إلى سياسة وسياسيين يتبنّون عن سابق إصرار وتصميم إهمال الإصلاحات.