خلافًا للعام 2023، الذي حلّ رابعًا في ترتيب سنوات ما بعد الانهيار، وتضمّن بعض الإصلاحات، لم يشهد العام 2024 أيّ تطوّر مفيد لتطويق الأزمة المفتوحة وبدء المعالجات. بل العكس هو الذي حصل. فقد قطع لبنان خلال العام المدبر الصلة مع كلّ الإجراءات المتّخذة في العام الذي سبقه، وعاد إلى نقطة الصفر.
العجز عن إقرار الموازنة
أولى علامات الفشل والتقصير تمثّلت في العجز عن دراسة مشروع قانون موازنة 2025، ضمن العقد الثاني لمجلس النواب، المخصّص أساسًا، بحسب الدستور، للبحث في الموازنة والتصويت عليها. وهو العقد الذي يمتد من منتصف تشرين الأول حتّى آخر السنة. هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث المضمون، فعدا كون موازنة العام 2025 تتضمّن عجزًا لا يقلّ عن 200 مليون دولار، فإنّ أرقامها لم تأخذ في الاعتبار ظروف الحرب التي استمرت طوال العام، وتحوّلت إلى شرسة من أيلول إلى 27 تشرين الثاني. إذ من المتوقع أن تتراجع الإيرادات بشكل كبير جدًا لسببين أساسيين:
الأول، إقفال المؤسسات وتراجع الاستثمارات وتحقيق الاقتصاد انكماشًا بنسبة 6.6 في المئة بحسب البنك الدولي.
الثاني، إقرار وزارة المال تمديد مهل تقديم بعض التّصاريح، وتأدية الضّريبة المتوجّبة عنها، بسبب الحرب وظروف المؤسسات.
أمّا من حيث النفقات فيفترض أن تزداد عن الرقم المقدّر بحوالى 4.8 مليار دولار. وحتّى إذا افترضنا أنّ الدولة لن تتكفّل بإعادة إعمار ما هدمته الحرب، فهي أقلّه ستكون مسؤولة عن عملية تمويل رفع الأنقاض، وتأمين الخدمات الصحية والاستشفائية، وتأهيل البنى التحتية المهدّمة من طرق ومحطات مياه وكهرباء واتصالات وصرف صحي، مع شبكاتها. وهي الأكلاف التي تقدّر، بحسب أفضل التوقّعات، بين 500 مليون ومليار دولار. هذا فضلًا عن ضرورة البدء بتسديد ثمن الفيول العراقي عن الصفقات السابقة، والقادمة والتي تقدر بحوالى 3 مليارات دولار. في حين لم تخصص موازنة 2025 إلّا 100 مليون دولار ثمناً للفيول العراقي من ضمن احتياطي الموازنة المقدّر بـ 624 مليون دولار. كما لا تأخذ موازنة 2025 في الاعتبار الرواتب الأربعة التي أضيفت إلى أجور موظفي القطاع العام ومتعاقديه بعد إقرار الموازنة، والتي تقدر بنحو نصف مليار دولار إذا افترضنا أنّ متوسط الرواتب هو 2.5 مليون ليرة، والعدد المستفيد 350 ألفًا بين فاعل ومتعاقد ومتقاعد. وعمليات التطويع في القوى المسلحة. وسيضاف هذا المبلغ إلى مجمل الرواتب والمنافع الوظيفية المقدرة بـ 2.4 مليار دولار في موازنة 2025 التي تمثل قرابة 8.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بحسب وزارة المال بـ 28 مليار دولار. واذا ما احتسبنا الرواتب الإضافية مع حتمية تراجع الناتج إلى نحو 20 مليارًا، فإنّ الرواتب والأجور ستمثل 15 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، في حين كانت كتلة الرواتب والتقديمات مقدّرة بـ 8.6 من الناتج بحسب الموازنة العامة للعام 2025. و7.6 في المئة من الناتج في 2024 و4 في المئة من الناتج في موازنة 2023. ومن البديهي أنّ ارتفاع حصّة كتلة الرواتب والأجور مقارنةً بالناتج ليس أمرًا صحيًا.
الاخطر أنّ عدم دراسة مجلس النواب مشروع الموازنة خلال كانون الثاني يتيح للحكومة إقرارها كما هي بمرسوم في الأول من شباط. خصوصًا أنّ مشروع القانون مرسل في موعده الدستوري.
الإدراج على اللائحة الرمادية
الفشل الثاني الذي أصاب الاقتصاد في 2024، والذي لا يقلّ أهمية، كان إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي "فاتف" بعد العجز عن إقرار الإصلاحات المالية والتنظيمية والتشريعية المطلوبة من لبنان منذ العام 2022. ويخشى المراقبون "استمرار حالة الإنكار في الأوساط السياسية والنقابية اللبنانية، وتقاذف المسؤوليات، وهذا ما يفوّت على لبنان فرصة الخروج من اللائحة في غضون عامين، ويعرّضه لمزيد من المشكلات، كتصنيفه دولة غير متعاونة في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهذا سيكون له تداعيات مادية ومعنوية كبيرة على الاقتصاد اللبناني في العام 2025. إذ إنّ المطلوب من لبنان بناء نظام متكامل يحدّ من تجاوزات القطاعات ذات الصلة، التي لا ترتبط بالمصارف والمؤسسات المالية فحسب، بل تمتدّ أيضًا إلى تجار المجوهرات والكتّاب العدل والمحامين. وتطبيق العقوبات، التي يجب ألّا تنحصر بالفاعل بل كذلك بكلّ من تردّد في المساعدة على كشف حالات تبييض الأموال.
خطة التعافي
الفشل الثالث تمثّل في العجز عن إقرار خطّة "تعاف اقتصادي"، والمقصود بها: معالجة توزيع الخسائر في النظام المصرفي. إذ سرعان ما سحبت الحكومة التصور الافتراضي لمعالجة الودائع وإعادة هيكلة المصارف الذي وضعته في تموز 2024، من التداول. وذلك لما تضمّنه من إجحاف بحقّ المودعين، ومخاطر على الاقتصاد من جراء الليرة، وإعدام الأمل بإحياء القطاع المصرفي من جديد. وعليه مرّ العام الرابع على الانهيار ثقيلًا جدًا على المودعين، إذ انحصرت إمكانية سحبهم من الودائع بالتعميمين 158 و166، اللذين يتيحان سحب ما بين 150 و400 دولار حدًّا أقصى. وهي مبالغ لا تكفي لتمويل الفاتورة الاستهلاكية، وتتطلّب عشرات السنوات لاسترجاع الوديعة.
أبت 2024 أن تفارق اللبنانيين من دون أن تشغل بالهم بعودة الفوائد الخيالية على الليرة
إهمال تطبيق القوانين الاصلاحية
الفشل الرابع تمثل في العجز عن تطبيق القوانين الإصلاحية والمعاهدات الدولية التي سبق أن أقرّها مجلس النواب ووافقت عليها الحكومات، وهي تندرج تحت عناوين متنوعة تتعلّق بحماية العمال، وضمان المنافسة، وإلغاء الاحتكارات، والحدّ من التهرب الضريبي، وملاحقة المتهرّبين ضرائبيًا في الداخل والخارج وتطبيق قوانين الإصلاح الطاقوي وحماية المستهلك وغيرها العديد من القوانين المهمة.
تحدي إعادة الاعمار
الفشل الخامس تمثّل في العجز عن رفع الانقاض بعد الحرب، فما بالنا بإعادة الإعمار. فلا الدولة قادرة على البدء بالعملية المهمة جدًا اجتماعيًا واقتصاديًا، ولا الدول المانحة ستقدّم الدعم والمساعدة إذا لم تُطبّق القوانين الصلاحية وتنتظم الحياة السياسية.
وكما العادة أبت 2024 أن تفارق اللبنانيين من دون أن تشغل بالهم بعودة الفوائد الخيالية على الليرة، وتحفيزهم على صرف ما في أيديهم من دولارات للاستفادة من انخفاض سعر الصرف المزعوم بعد تحقيق الاستقرار. الأمر الذي شبهه كثيرون بـ"هرم احتيالي" جديد يخسّر اللبنانيين ما بقي في حوزتهم من أموال ومدخرات.
يقول الحديث الشريف "إكرام الميت دفنه"، وهذا ينسحب على العام 2024 الميت اقتصاديًا بكلّ ما للكلمة من معنى، وإكرامه دفنه وإزالته من روزنامة السنوات.