يعيش لبنان عند مفترق طرق أساسي لاستمرارية كيانه، فالمطلوب اليوم أصبح معروفًا ويتمثّل في إعادة تكوين السلطة التنفيذية (انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة أصيلة، وملء الشواغر الإدارية والقضائية والمالية والعسكرية) ثم القيام بإصلاحات طالب بها المُجتمع الدولي على لسان صندوق النقد الدولي. والفشل في القيام بهذا الأمر، سيُعقّد الأمور أكثر مما هي مُعقّدة أصلًا، وسيؤدّي إلى ضرب هياكل الكيان اللبناني ضربًا سيحتاج معه لبنان إلى عقود للعودة إلى ما كان عليه سابقًا. وافتراضًا أنّ القوى السياسية نجحت في هذا الاستحقاق وقامت بما يلزم، فما هي المشاريع التي يُمكن المُستثمرين القيام بها في لبنان؟

هناك لائحة طويلة من المشاريع التي يحتاج إليها لبنان في إطار عملية النهوض الاقتصادي والتنمية التي يجب أن تكون من أولويات الحكومات المقبلة:

- إعادة الإعمار: من دون أدنى شكّ، تُشكّل إعادة الإعمار أولوية في المشاريع الواجب القيام بها في لبنان. لكن هذه الأولوية تحتاج إلى تمويل قد يصعب إيجاده في القطاع الخاص إلّا في عدد من الحالات. وبالتالي، فإنّ الاعتماد الأساسي في هذه الحالة على التمويل الآتي من المساعدات العربية والدولية ومن الحكومة اللبنانية (غير القادرة حاليًا على التمويل).

- مشاريع الطاقة والمياه: ممّا لا شكّ فيه أنّ فشل الحكومات المُتعاقبة على السلطة منذ أكثر من عقدين في تأمين الكهرباء، يجعل الاستثمار في هذا القطاع من الأولويات للمجتمع اللبناني ولكن أيضًا من أولويات المُستثمرين نظرًا إلى الحاجة والربحية في هذا القطاع. على هذا الصعيد، تأتي مشاريع الطاقة المتجدّدة من طاقة شمسية (أكثر من 300 نهار مُشمس سنويًا) والرياح (العديد من المناطق الساحلية والشمالية تؤمّن الإطار الملائم) لتكون في صدارة هذه المشاريع. كذلك يحتاج لبنان إلى تجديد العدّادات وتحويلها إلى عدّادات ذكية، فضلًا عت نقل الخطوط الكهربائية ووضعها تحت الأرض (المدى البعيد).

وفي مجال المياه، يحتاج لبنان إلى دراسة كاملة وهو البلد الغني بمتساقطاته إلى إستراتيجية وخطّة لتخزين المياه وإيصالها إلى المواطنين في جميع المناطق. كذلك الأمر بالنسبة إلى شبكات الصرف الصحي التي تفتقر الكثير من المناطق إليها حيث يتمّ التخلّص منها في الأراضي الزراعية والجبال، وهو ما قد يلوّث ينابيع المياه.

- التكنولوجيا: نظرًا إلى الكفاءات البشرية العالية في لبنان خصوصًا في القطاع التكنولوجي، يحتاج لبنان بشكلٍ كبير إلى حاضنات للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وفي القطاعات الداعمة. ويُمكن على هذا الصعيد، إنشاء مدن تكنولوجية على شاكلة السيليكون فاليه، أي بتعاون ثلاثي بين الحكومة (من باب الضرائب)، والقطاع الخاص (من باب التمويل) والجامعات (من باب الأفكار وتطبيقها) لكي تتحوّل هذه الأفكار إلى مشاريع تجارية تُطلق من خلالها شركات ناشئة. والأسواق لهذه الشركات هي السوق المحلّي والسوق العالمي حيث العديد من الشركات العالمية تستخدم الشباب اللبناني عن بعد للقيام بخدمات في مجال البرمجة والذكاء الإصطناعي.

- القطاع الصناعي: أكثر من 80% من استهلاك لبنان هو مستورد. وبالتالي، هناك مجال لصناعات عدة للازدهار في لبنان إذا ما وجد لها الاستثمار والإطار الملائم. على هذا الصعيد، تلعب المناطق الصناعية دورًا جوهريًا في تحفيز الاستثمارات في القطاع الصناعي نظرًا إلى التقديمات التي توفّرها هذه المدن من تخفيضات ضريبية وخدمات أخرى. القطاعات قد تشمل الصناعة الغذائية، والعقارات، والألبسة، والبيتروكيماويات...

- القطاع الزراعي: المعروف أن لبنان حديقة أوروبا، أو أقلّه هذا ما عمل عليه الرومان والفرنسيون. وبالتالي، فإن الأراضي الخصبة مناسبة للزراعة الحديثة والمشاريع الزراعية الصناعية سواء في الأراضي المفتوحة أو في البيوت الزجاجية. تطوير القطاع الزراعي هو من الأسس، خاصة نظام الريّ والتقنيات المُستخدمة في الزرع والحصاد. كذلك هناك تربية الأسماك في مزارع متخصصة ومنشآت صناعية لتصنيع المأكولات البحرية وضخها في السوق المحلّي لتلبية الطلب الداخلي أو تصديرها إلى الأسواق العالمية. وللتذكير، ثمة أكثر من 80% من الاستهلاك الداخلي هي مستوردة.

- القطاع السياحي: لا أحد يُمكنه إنكار الطابع الجغرافي الرائع للبنان والذي يجعل منه مقصدًا سياحيًا من الدرجة الأولى في المنطقة. وبالتالي، هناك حاجة كبيرة لمشاريع سياحية (منتجعات) على الساحل والجبل بهدف تدعيم السياحة التقليدية وإطلاق سياحة ثقافية ودينية وحتى طبّية تُعطي السائح إمكانية زيارة لبنان ضمن إطار حضاري ومُريح. وهذا كله يحتاج إلى استثمارات في البنية التحتية للسياحة مع سياسة حكومية حكيمة للتحفيز والتنظيم ضمن إطار القانون. للتذكير، هنالك أكثر من مليون سائح (مغترب لبناني) يدخلون لبنان سنويًا، فضلًا عن ملايين السياح العرب والأجانب الطامحين لزيارة لبنان، وهذ كله يجعل من الاستثمار استثمارًا ذا ربحية عالية.

- القطاع العقاري: تفشى بناء العقارات بشكلٍ عشوائي في العقود الماضية. آن الأوان لخطّة عقارية شاملة تسمح لذوي الدخل المحدود والمتوسّط من الوصول إلى السكن من دون تشويه البيئة، وهنا الطلب هائل. كذلك يحتاج لبنان إلى إنشاء مجمّعات سكنية داخل المدن تحتوي على مراكز تجارية، بالإضافة إلى إنشاء مدن ذكية تحتوي على بنية تحتية ذكية ذات استهلاك حراري ضئيل. وهنالك أيضًا حاجة إلى ترميم العديد من المباني الأثرية، وهذا كلّه يُمكن تحفيزه من خلال السياسات الضريبية والإطار القانوني والإداري الملائم.

- القطاع الصحي: قبل الأزمة، كان لبنان من الدول الرائدة صحّيًا. إلّا أنّ الأزمة أدّت إلى ضرب هذا القطاع، وبالتالي، هناك حاجة إلى إنشاء مستشفيات خاصّة ومصانع للأدوية ومراكز إعادة تأهيل (فيزيائي) بهدف تلبية طلب السياحة الطبية.

- قطاع النفايات: لا أحد منا نسي أزمة النفايات التي اندلعت خلال العقد الماضي وأدّت إلى نهاية كارثية تتمثّل في مطمرين تُلقى فيهما النفايات ويتمّ طمرها في البحر. وعليه، هناك حاجة ماسّة إلى حلول مبتكرة ومُستدامة تبدأ بمصانع لإعادة تدوير النفايات، ومنشآت التسميد، وتنتهي بمصانع لتوليد الطاقة من النفايات. هذه المشاريع هي مشاريع حيوية تُشكّل أولوية للبنان في المرحلة المُقبلة، خصوصًا أنّ مطامر الكوستابرافا وبرج حمّود لن تتحّمل نفايات سوى مدة تراوح بين عام وعامين حدًّا أقصى.

- قطاع النقل: مع إعادة إعمار سوريا وإعمار ما تهدّم في لبنان نتيجة الحرب الأخيرة، هناك حاجّة ماسة إلى تحديث البنى التحتية من نقل داخل لبنان ومع الخارج. من هنا، هناك فرص استثمارية كبيرة في الموانئ اللبنانية (بيروت وطرابلس) وذلك لجعل لبنان مركزًا إقليميًا للترنزيت، وطرق وسكك حديد لربط لبنان بالدول العربية. هذا الأمر سيجعل من لبنان جسرًا بين القارة العجوز والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أضف إلى ذلك، حاجة لبنان إلى النقل المشترك العام، وهذا يعني العديد من المشاريع مثل الميترو والبحر وغيرها.

على أن هذه المشاريع هي جزء من المشاريع التي يُمكن الاستثمار فيها في لبنان، وسيكون لها دورٌ كبير في إعادة النمو الاقتصادي واستدامته من باب الاستثمار الداخلي البحت أو الاستثمار الأجنبي المباشر أو الشراكة مع الشركات العالمية. إلّا أنّ كلّ هذا لا يُمكن أن يرى النور إلّا إذا كان هناك مناخ استثماري جيد وبيئة أعمال ملائمة تكون مفتاح النجاح لهذه المشاريع.