تمثّل زيارة وليد جنبلاط إلى سوريا الأحد الفائت في الثاني والعشرين من هذا الشهر تحوّلا في العلاقات اللبنانية السورية، وهي المرة الأولى التي يتواصل فيها جنبلاط مع القيادة السورية منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما. وتزامنت هذه الزيارة مع ثلاث زيارات مهمّة إلى دمشق: زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وزيارة وفدين عربيين سعودي وقطري.
تاريخيا، حافظ وليد جنبلاط على علاقة معقّدة مع سوريا. ورث والدَه كمال جنبلاط في العام 1976 وهو يعلم أن أمر اغتياله صدر في دمشق ونفّذته مجموعة من فصيل فلسطيني يأتمر بأوامر دمشق. لكنّه كان يعرف أيضاً أن القوات السورية تسيطر على الأرض وقادرة على شق الدروز، وأغلبهم يعيش في محافظة السويداء جنوبي سوريا.
أتت زيارة جنبلاط إلى دمشق بعد نحو أسبوعين على إطاحة بشار الأسد، على رأس وفد ضم شخصيات درزية بارزة من لبنان وسوريا، للاجتماع برئيس إدارة العمليات أحمد الشرع، بما يعكس جهدا لطمأنة الدروز السوريين بشأن وضعهم في ظل الإدارة الجديدة. وخلال اللقاء، أعرب جنبلاط عن أمله في تحسين العلاقات بين لبنان وسوريا. وشدّد على أهمية إقامة علاقات دبلوماسية ومعالجة المظالم التاريخية، بما في ذلك المساءلة عن الجرائم المرتكبة ضد المواطنين اللبنانيين طوال رئاسة حافظ وبشار الأسد. ردُّ الشرع كان إيجابياً، أكّد فيه أنّ إدارته ستحترم سيادة لبنان وتحافظ على مسافة متساوية من جميع الأطراف اللبنانية.
القيادة السورية الجديدة
أحمد الشرع، المعروف سابقا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، وعد حمايةَ حقوق الأقليات في سوريا وتعزيزَ نموذج حكم مدني يضم الجميع وينأى بنفسه عن الطائفية. أكد أيضاً لجنبلاط أن إدارته ستحرص على حماية جميع المكوّنات السوريّة، قائلاً إنه يعلم أن ذلك أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار في بلد يضمّ مجموعات عرقية ودينية متنوعة. جدير بالملاحظة أيضا التزام الشرع باحترام السيادة اللبنانية، نظرا للهيمنة التاريخية لسوريا على الشؤون السياسية اللبنانية. وتشير تصريحاته إلى الرغبة في إعادة ضبط العلاقات مع لبنان، والابتعاد عن التدخلات السابقة التي تسببت في انعدام ثقة عميق في صفوف المجموعات اللبنانية تجاه سوريا.
التوقيت والسياق الجيوسياسي الأوسع
كان توقيت زيارة جنبلاط حاسما لأنه تزامن مع نشاط دبلوماسي رفيع المستوى من تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر. فوجود وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في دمشق يؤكّد اهتمام أنقرة بتشكيل سوريا ما بعد الأسد مع الاحتفاظ بنفوذها على هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى، واعتزامها تحديد حرّيّة تحرك الكرد في شمال شرق سوريا. وكانت تركيا ناشطة في دعم عدد من المجموعات والفصائل المعارضة داخل سوريا منذ بداية الحرب الأهلية، ويشير انخراطها مع الإدارة السورية الجديدة إلى إعادة تنظيم محتملة للتحالفات في المنطقة. وبالمثل، يعكس قرار المملكة العربية السعودية إرسال وفد إلى دمشق نيتها إعادة العلاقات مع سوريا بعد سنوات من دعم قوات المعارضة ضد الأسد. يشير هذا التحول إلى استراتيجية إقليمية أوسع تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سوريا بعد الأسد مع إعادة تقويم العلاقات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكذلك تهدف زيارة الوفد القطري إلى رغبة في الحفاظ على نفوذ لدى الفصائل التي كانت تدعمها الدوحة. يدلّ تزامن هذه الزيارات إلى أن القوى الإقليمية تعيد تقييم استراتيجياتها في ضوء التطورات الأخيرة في سوريا. بالنسبة للبنان، قد يعني ذلك فرصة لعودته إلى الانخراط انخراطا بنّاء مع جيرانه ومعالجة القضايا الطويلة الأمد المتعلقة بالسيادة والأمن.
رغم نبرة جنبلاط المتفائلة عن زيارة سوريا، لا تزال أمام الدولتين تحديات كبيرة. لا يزال الإرث التاريخي للتدخل السوري في لبنان يلقي بظلاله الطويلة على العلاقات الثنائية.
التداعيات على السياسة اللبنانية
يمكن أن يكون لزيارة جنبلاط تداعيات عميقة على السياسة اللبنانية، لا سيما في ما يتعلق بكيفية استجابة الفصائل المختلفة للانخراط المتجدد مع سوريا. وبصفته زعيما مؤثرا تاريخيا داخل الطائفة الدرزية، قد يشجع تواصله مع الشرع شخصياتٍ سياسيةً لبنانية أخرى على إعادة النظر في مواقفها تجاه دمشق. فغالبا ما وجدت الطائفة الدرزية نفسها عالقة بين ولاءات متنافسة في لبنان وسوريا، ويمكن أن يساعد تركيز جنبلاط على الحوار والتعاون في سد الانقسامات داخل لبنان مع تعزيز نهج أكثر توحيدا للتحديات الإقليمية مثل نزعة إسرائيل التوسعية. علاوة على ذلك، يعكس تقديمُ جنبلاط مذكرة تفاهم تهدف إلى تنسيق العلاقات اللبنانية السورية نهجا استباقيا للدبلوماسية. من خلال معالجة قضايا مثل ترسيم الحدود ومصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. ويسعى هذا النهج إلى إرساء أسس التعاون المستقبلي بين البلدين.
إلا أن زيارة جنبلاط سبقت أي اتصال رسمي بين الحكومتين اللبنانية والسورية. أخذ جنبلاط المبادرة قبل وزارة الخارجية، وهذا يؤكّد اختلال التوازنات والممارسات والأصول السياسية في لبنان إذ إن المكوّنات لا تزال تقدّم مصالحها على الكيان وتحاول الحفاظ عليها خارج إطار الدولة. وفي هذا الإطار قد يكون جنبلاط استشعر خطر تنافس بين مشروع إبقاء الحدود السورية كما هي مع اعتماد لامركزية موسعة لمختلف المناطق وبين تقسيم سوريا بحيث تسعى إسرائيل إلى التحالف مع دولة كردية في الشمال الشرقي السوري ودولة درزية على حدودها.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى مقال كتبه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت في صحيفة واشنطن بوست قال فيه إن "الحدود والتدابير التي فُرضت زمن الاستعمار (الانتداب) والتي حدّدت المنطقة في القرن الماضي بدأت تتآكل. لا أحد يعرف كيف ستستقر الحدود حين ينتهي كل هذا الحراك. وبدلا من الانتماء إلى هوّيّات وطنية مفروضة من المرجّح أن يكون النظام الإقليمي الجديد طبيعياً من الناحية المجتمعية مبنيا على أسس عرقية ودينية وقبلية وطائفية."
التحديات المقبلة
رغم نبرة جنبلاط المتفائلة عن زيارة سوريا، لا تزال أمام الدولتين تحديات كبيرة. لا يزال الإرث التاريخي للتدخل السوري في لبنان يلقي بظلاله الطويلة على العلاقات الثنائية. لدى العديد من المواطنين اللبنانيين شكوك عميقة الجذور بشأن النوايا السورية، وهو ما يجعل من الضروري لكلا الجانبين الإبحار الحذر في هذه الأمواج المتلاطمة.
إضافة إلى ذلك، أثارت تعليقات جنبلاط بشأن مزارع شبعا، وهي منطقة يتنازعها لبنان وسوريا، جدلا بين السكان المحليين الذين يؤكدون هويتها اللبنانية. وهذا يسلّط الضوء على التعقيدات التي تنطوي عليها معالجة النزاعات الإقليمية مع محاولة إرساء علاقات أفضل.
ومع ذلك، في حين تعهد الشرع بعدم التدخل سلبا في الشؤون الداخلية للبنان، لا تزال هناك شكوك حول ما إذا كان هذا الالتزام سيظل قائما وسط التوتر الإقليمي المستمر والعوامل الخارجية.