أبت سنة 2024 أن تُقفل بهدوء بعدما طوت، ولو جزئياً، واحدة من أثقل صفحات الحرب في تاريخ لبنان. فالرأي العام انهمك في الأسابيع الماضية بمصير سعر صرف الليرة في المقبل من الأيام. البعض "بشّر" بحتمية ارتفاعه مقابل الدولار (تحسّنه)، بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، وبدء تدفق المساعدات المالية للدعم وإعادة الاعمار. والأغلبية المجبولة بـ"مياه" الاقتصاد الريعي، أو المتعطّشة لخبر إيجابي، صدّقت "البشرى"، وأخذت تحوّل جزءًا ممّا تحمله من دولارات إلى ليرات بهدف تحقيق الأرباح مستقبلًا. وإن لم تفعل، فهي تستقصي الاحتمالات بكلّ ما أوتيت من قوة وعلاقات.

بمعزل عن ظاهرة التنجيم التي تصاحب ليل 31 كانون الأول، فإنّ ما يحدّد سعر العملة الوطنية في أيّ بلد، هو قوة الاقتصاد سواء كان نظام الصرف المعمول به ثابتًا أو مرنًا. في الحالة الأولى، تتطلّب المحافظة على سعر قويّ للعملة، احتياطيات كبيرة من العملة الأجنبية، وقطاعات انتاجية قادرة تعمل بكلفة متدنّية للتمكّن من المنافسة في الأسواق المحلّية والعالمية، ذلك أنّ العملة القوية مُعرقلة للتصدير. أمّا في ظلّ نظام الصرف المرن، فإنّ صون العملة من الانهيار يتطلّب الثقة بها أولاً، واستقرارًا سياسيًا وأمنيًا، ووجود تدفّقات نقدية كبيرة من العملة الأجنبية تلبّي الطلب لدى حدوثه.

بعض المؤشرات الاقتصادية

بغضّ النظر عن أنّ اقتصادنا في خضم أزمة غير معالجة، صنّفها البنك الدولي في حزيران 2021، بأنّها "أشدّ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر"، فإنّ جميع المؤشرات المالية، النقدية والاقتصادية الراهنة، الأكثر تأثيراً على مصير سعر صرف، لا تشي بالخير.

على صعيد المالية العامة، تُبيّن أرقام موازنة مصرف لبنان إلى منتصف كانون الأول الحالي، أنّ حجم ودائع القطاع العام حوالى 6 مليارات و45 مليون دولار. لكنّ المبلغ كله، كما بات معروفًا، بالليرة اللبنانية، وهناك نحو 600 مليون دولار بالعملة الأجنبية. وإذا وضعنا كلّ الديون الأجنبية، والمستحقّات الداخلية، والمطلوبات المؤجلة لتعديل الأجور والتعويضات والنفقات الاجتماعية، وإعادة الإعمار، فإنّ ثمن الفيول العراقي غير المسدّد 3 مليارات دولار. وهذا المبلغ ملزمة الحكومة بتسديده وفقًا لخطة الطوارئ الكهربائية، وليس مؤسسة الكهرباء. وفي حال التخلّف عن دفعه بعد انتظام الوضع السياسي، فإنّ توريد الشحنات سينقطع، وسيغرق لبنان في العتمة الشاملة. هذا عدا المعضلة الأهم، التي تفترض أنّ توسّع الإنفاق داخليًا بالعملة الوطنية سيزيد الطلب على الدولار ويرفع سعره مقابل الليرة. وما الاستقرار الذي شهده سعر الصرف طوال الفترة الماضية إلّا النتيجة الطبيعية لكبح الإنفاق العام، رغم المتطلبات كافة.

نقديًا، يملك مصرف لبنان احتياطيًا من العملات الأجنبية يبلغ 10 مليارات و175 مليون دولار. إلّا أنّ هذا الاحتياطي الذي يبدو "معقولًا" يُستنزف بإعادة الأموال إلى المودعين بأقلّ من الحدّ الأدنى بكثير. إذ تمّ تسديد منذ بداية تطبيق التعميمين الأساسيين الرقم 158 والرقم166 حتى 2024/11/30، مبلغًا إجماليًا مقداره 3,241,894,179 دولارًا أميركيًا، وبلغ عدد المستفيدين ما مجموعه 431,448 مودعًا. ويتحمّل مصرف لبنان نصف قيمة المبالغ المسدّدة بالدفعات المنفردة. وحوالى ثلثي المبلغ في حالات الدفعات الإضافية التي تسدد.

من الناحية الاقتصادية، وهي الأهمّ، فإنّ لبنان يعاني انكماشًا اقتصاديًا حادًّا، قدّره البنك الدولي بنحو 34 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في السنوات الخمس الأخيرة. مع التقدير أنّ الصراع أدّى هذا العام تحديدًا إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6.6 بالمئة على الأقلّ. بكلام آخر، الاقتصاد لا ينمو. وبمقارنة أرقام الاقتصاد الكلّي من الدين العام، وعجز الموازنة، والفجوة المصرفية، ومعدّل الدخل، بالناتج، تتبيّن نسب هائلة غير مقبولة.

وعقب انتظام الحياة السياسية بعد التاسع من كانون الثاني المقبل وإعادة تفعيل التعاون مع صندوق النقد الدولي بصفته مالك ختم إعطاء الثقة الدولية بلبنان، يفترض أولاً تحرير سعر صرف الليرة. وبالتالي الحدّ من قدرة مصرف لبنان على التدخل في السوق ممتصًّا لليرات وبائعًا للدولارات. وهذا ما يفقد الثقة بالعملة الوطنية ويزيد الطلب على الدولار، فيدفع ذلك كله إلى ارتفاع سعره مقابل الليرة، أقلّه في الفترة الأولى، ريثما تثبت الإصلاحات وتأخذ الليرة حجمها الحقيقي. وعليه، فإنّ ربط ارتفاع سعر الصرف (تحّسنه) بالاستقرارين السياسي والاقتصادي، غير واقعي، ويندرج في إطار الأمنيات أكثر منه في إطار الواقع.

 بيع الدولارات المخزّنة لشراء الليرات أملًا في تراجع سعر الصرف، أو تجميدها مقابل فوائد، هما أمران محفوفان بالمخاطر

التجربة المصرية

تبيّن تجارب مختلف الدول انخفاض سعر الصرف بعد التحرير تدريجيًا كان أو مرة واحدة. ولنا في مصر المثال القاطع لذلك. فمنذ قرّر المركزي المصري تعويم سعر الصرف في العام 2016، تمهيدًا لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بدأ سعر الجنيه التراجع التدريجي. وقد انخفض في العام الأول على التعويم بنسبة 100 في المئة، من 8 جنيهات مقابل الدولار إلى 18 جنيهًا. وظلّ سعر الصرف الرسمي يتذبذب نزولًا وطلوعًا بين سعرين 20 و15 جنيهًا للدولار الواحد حتّى عام 2022، عندما عمد المركزي إلى تعويم جديد لسعر الصرف، فانخفض الجنيه إلى 25 دولارًا. ومن بعد التوقيع في كانون الأول 2022 على اتفاق مع صندوق النقد الدولي مدّته 46 شهرًا بقيمة 3 مليارات دولار أميركي، واشتراط الأخير حزمة من سياسات التحوّل الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن، قفز سعر الصرف إلى 50 جنيهًا في العام 2024. وبالتوازي مع تحرير سعر الصرف وانخفاضه، لم تتخلّص مصر من السوق السوداء، حيث يزيد سعر صرف الدولار بنسبة تراوح بين 20 و30 في المئة على سعر الصرف الرسمي حتّى مع التحرير. ولم ينفع رفع صندوق النقد قيمة البرنامج الممددة إلى 8 مليارات دولار وتخصيص العديد من القطاعات العامة، ورفع سعر الفائدة والتحفيز على عدم إخراج الدولار واستقطاب دولارات المغتربين، وضخّ استثمارات خليجية بعشرات مليارات الدولارات... لم ينفع هذا كله في لجم سعر الصرف في مصر، والقضاء على السوق السوداء.

بمَ تفيدنا هذه القصة المختصرة؟ إنّ تحرير سعر الصرف في الاقتصاديات المأزومة يعني انخفاضه حتمًا من دون أن يعني ذلك استمرار التراجع إلى ما لا نهاية، وتستمر العملة في انخفاض حتى تأخذ قيمتها الحقيقية، هذا إذا افترضنا عدم وجود مضاربة على سعر الصرف.

انطلاقًا ممّا تقدّم، فإنّ بيع الدولارات المخزّنة لشراء الليرات أملًا في تراجع سعر الصرف، أو تجميدها مقابل فوائد، هما أمران محفوفان بالمخاطر، وقد يخسّران اللبنانيين ما راكموه خلال السنوات الخمس الأخيرة مرة جديدة.