يمكن إعادة كلّ ما نشهده من عرقلة لحلّ الأزمة إلى الاختلاف على كيفية توصيف ودائع المصارف في مصرف لبنان. هل هي خسائر أم فجوة...
رمت المصارف مذكّرة ربط النزاع في "بركة" الدّولة الراكدة، وجلست تنظر إلى المدى الذي يمكن أن يصله اتّساع الدوائر هذه المرّة. فالدوّامات التي أحدثتها أحجار "توزيع الخسائر" بمختلف أحجامها وأنواع رماتها، لم تلبث أن تلاشت ليعود كلّ شيء مثلما بدأ: ضبابية تعيق السّير بأيّ قرار، على الرّغم من جلاء موقف جميع الأطراف المعنيّة بالأزمة من كيفية تحمّل المسؤوليات.
للتبسيط، يمكن إعادة كلّ ما نشهده من عرقلة لحلّ الأزمة إلى الاختلاف على كيفية توصيف ودائع المصارف في مصرف لبنان. هل هي خسائر أم فجوة. في الحالة الأولى، تُشطب، وتمحي معها رساميل المصارف وتفلسها. وفي الثانية، تردم من الجهة المسؤولة عن تعميق حفرتها، أي الدولة. وبغضّ النّظر إن كانت "الردميات" عبارة عن "رمال" أصول القطاع العام "المائعة"، فإنّ المصارف تستمرّ. وعليه لا توفّر المصارف جهداً للدفاع عن مصالحها، وتحديداً في وجه الدّولة التي أقرّت مع صندوق النّقد شطب الودائع في المركزي والالتزام برسملته بـ 2,5 مليار دولار فقط، من أصل مجمل قيمة الخسائر التي تقدّر بـ 72 مليار دولار. فهل تنجح خطوة المصارف الأخيرة بربط النّزاع؟ وكيف ستردّ الدولة؟ وما هو مصير المودعين؟
تطبيق القوانين النافذة
ترمي المصارف في مذكّرة ربط النزاع التي وجّهتها إلى الدولة بالنيابة عن مصرف لبنان إلى القول بأنّ "مصرف لبنان قاصر عن القيام بهامه. لذا، وبما أنّه مدين لها، فقد اعتبرت نفسها سنداً لمبدأ الحلول المنصوص عليه في المادة ٢٧٦ من قانون الموجبات والعقود، بأنّها حلّت مكانه بالقيام بمهام القاصر عن اتمامها بنفسه"، بحسب المحامي المتخصّص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية الدكتور باسكال ضاهر. "وبغضّ النّظر عن مدى قانونية مذكّرة ربط النّزاع التي لم توجهها مباشرة إلى مصرف لبنان لمطالبته بالتسديد لها بما تدّعيه ديناً عليه، إلّا أنه ما لفتنا هو استناد المصارف إلى القوانين المرعيّة الإجراء للقول بأنّ الدولة هي المدين الأخير. وبالتالي اعترفت، بأنّ القوانين الرّاهنة تحمي الحقوق ويقتضي الركون إليها كما هي. وهذا يتناقض بشكل جليّ مع ما أدلت به المصارف سابقاً، كما ومع ما أدلى به المركزي نفسه على لسان حاكمه بالإنابة وسيم منصوري بضرورة إقرار ما يدعى بالقوانين الإصلاحية - علماً أنّها لا تتّصل بالإصلاح بصلة بل إنّها ترمي إلى تمويه الارتكابات الحاصلة - حتى تبيّن الآن وللجميع وبإقرار المصارف بمذكّرة ربط النزاع، بأنّنا لسنا بحاجة إلاّ إلى تطبيق القوانين الموجودة في سلّم المشروعية، وهي كافية لحماية الحقوق". وهذا عينه مما يلزم المصرف بوقف الاستنساب. ولاسيّما وأن القوانين ليست شمّاعة تستند إليها وتعلّق عليها الموبقات متى أرادت ومتى تحقّقت مصلحتها؛ وتهملها وتهاجمها حين تتنافى مع مصلحتها لصالح المودع. وبحسب ضاهر ينطبق المعيار عينه، على المودع استناداً إلى هذه القوانين المرعية الإجراء، لردّ حقوقه من المصرف. لأنّه هنا يجب التأكيد بأنّ الودائع لا علاقة لها قانوناً بأيّ استثمار دخلت به المصارف من قريب ولا من بعيد. وعليه فإنّ الخلاصة وكما أكّدنا سابقاً، لا نحتاج إلى قوانين غير مشروعة بل إلى تطبيق تلك الموجودة في سلّم المشروعية".
موقف الدولة
الموقف الواضح للمصارف يقابله إبهام قلّ نظيره من قبل الدّولة. وما نقصده بالدّولة هي السّلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية المولجة وضع القوانين إقرارها والحرص على تطبيقها بعدالة. وبحسب ضاهر فإنّ ردّ الدولة على مذكّرة المصارف يحتمل واحد من ثلاثة خيارات:
- إمّا أن يكون خطّي ومعلّل يوافق المذكرة.
- إمّا أن يكون خطّي، رافض لها.
- إمّا أن ترفض الدولة هذه المذكّرة من خلال ما يسمّى سكوتها الضمني. ويتحقّق ذلك بانصرام مهلة الشهرين بعدم الجواب.
وفي الاحتمالين الأخيرين يعود للمصارف التقدّم بطعن أمام مجلس شورى الدولة. "وهنا سننتظر أيضا القرار عن القضاء بقبول هذه المراجعة من عدمه"، يقول ضاهر. ولاسيّما وأنّ المذكّرة تتضمن مطالبات قد تكون حاصلة لأوّل مرّة تجاه شخص معنوي. فالمصارف هنا تطلب الحلول مكان مصرف لبنان في ممارسة مهامه. مع التأكيد هنا بأنّ هذا المبدأ معمول به في القانون الخاص، وليس العام على أن يكون دين الدائن أكيد ومستحقّ الأداء. بعكس ما ورد في المذكّرة موضوع البحث التي لم تتضمّن الإشارة إلى مقدار هذا الدين، بل اكتفت المصارف بذكر أنّ دينها ثابت من خلال ميزانية مصرف لبنان فقط، وتوجّهت إلى مطالبة الدولة بصفتها قد حلّت مكان مصرف لبنان بتنفيذ واجباتها تجاهه. إضافة إلى ذلك فإنّ مجلس شورى الدولة في قراراته يتحاشى إلى حدّ ما توجيه أوامر إلى الدّولة، إلّا تلك التي يصدرها بصورة مقنعة.
كلّ ذلك يدلنا إلى بيان ما تسعى المصارف إلى تحقيقه من هذه المذكرة، ألا وهو "التأكيد على أنّ المسؤول عن هدر الأموال هي الدولة. ولا يمكن لها أن تتنصّل من مسؤوليتها في القوانين المطروحة كما حصل في قانون إعادة الهيكلة. وبالتالي فإنّ ربط النزاع هذا يتعدّى إطاره القضائي ويتّصل بالتشريعي ويرمي إلى تكبيله"، من وجهة نظر ضاهر. "ولا ننسى هنا بأنّ مجلس شورى الدولة كان قد أصدر قراراً سابقاً في المراجعة التي قدّمتها جمعية المصارف ضدّ الخطة الحكومية وقضى بوقف تنفيذها جزئياً، لأنّها تمسّ الحقوق المشروعة".
المودعون يدفعون الثمن
الخاسران الأساسيان من كلّ ما يجري هما المودع وأخيه المواطن. فالدولة بالمعنى العام لا تخسر، فهي تستمرّ كيفما اتفق ومواطنوها يدفعون الثمن فقراً. والمصارف لم تخسر بعد، رغم مرور 4 أعوام على تبخّر الودائع. في المقابل يعيش المودعون بعوز ويتحمّل المواطنون انهيار القيمة الشرائية لمداخيلهم. وهذا ما يتناقض بحسب مصدر مالي مع أبسط قواعد الرأسمالية التي تقول بأنّ الدائن وهو المودع في حالتنا الراهنة، لا يخسر قبل أن يخسر المساهمون رأس مالهم بالكامل.