الأيّام القادمة ستكون حافلة بمظاهر الصّرف والبذخ، ولكنّ الأكيد أنّها لن تكون خير معبّر عن مضمون الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
عذراً، نفذت جميع البطاقات. هذا ما سيسمعه كلّ راغب في حضور الحفل الموسيقي الذي سيحييه الفنّان عمرو دياب في وسط بيروت في 19 آب المقبل. قبل 46 يوماً لم يعد هناك من كرسيٍ فارغ، أو مساحة تتّسع لواقف، في حفل يتجاوز السّعر الأدنى لبطاقاته متوسّط ما يتقاضاه معظم اللبنانيين.
الحفلة، العلامة الفارقة التي طبعت العام الرّابع على انهيارٍ، عُدّ بحسب البنك الدولي بين الثلاث الأسوأ منذ منتصف القرن التّاسع عشر، ستحفر طويلاً في الذاكرة الجماعية. وستصبح مضرب مثل عن "شيزوفرانيا" (مرض الفصام) اللبنانيين، على غرار سابقتها قبل 22 عاماً. حيث نُقل عن الرئيس المصري السابق قوله: "بيقولوا بلبنان في حرب ومجاعة، ومن كم يوم عيّل صغيّر راح عمل حفلة، ورجع بنص مليون جنيه"، وذلك كردّ ساخر على طلب لبنان المساعدة عقب انتهاء الحرب الأهلية في العام 1991.
تأثير أحمر الشفاه
المفارقة أنّ الحفلة "المثال" تشكّل "القبع من ربع" ما ينفقه جزء من اللبنانيين على الكماليات والاستهلاك التفاخري، وارتياد المطاعم والحانات. إنفاق لا يقتصر على القلّة الميسورة، إنّما يتعدّاه إلى الشّرائح التي تراجع دخلها بين 50 و70 في المئة. وخلافاً لكلّ الإسقاطات المسبقة وإطلاق الاحكام عشوائياً، فإن هذه الظاهرة طبيعية من وجهة نظر الاقتصاد الاجتماعي في البلدان التي تصاب بأزمات اقتصادية. وهي تُعرف بحسب الباحثة وأستاذة علم الاقتصاد في الجامعة الاميركية د. ليلى داغر بـ "تأثير أحمر الشفاه" أو The lipstick effect. وهو ما يعني أنّ "المستهلكين يشترون في الأزمات سلع كمالية أقلّ تكلفة، كتعويض عن عجزهم شراء الأصول أو السّلع مرتفعة الثمن. وعليه فإنّ الافتراض الأساسي هو أنّ جزءاً من المستهلكين سيظلّ يشتري السّلع الكمالية حتى أثناء الأزمات. وبحسب داغر فإنّه "عندما يعاني الأفراد من ضائقة مالية ينغمسون في عمليات الشراء التفضيلية التي توفّر دفعاً عاطفياً من دون التأثير بشكل كبير على الميزانية الشخصية. وقد تمّ تحديد هذا النّمط في العديد من البلدان، وخصوصاً في قطاع التجميل، ومن هنا تلبّس هذا النمط مصطلح "تأثير أحمر الشفاه".
عوامل تساعد على الإنفاق في عزّ الأزمات
بالإضافة إلى "تأثير أحمر الشفاه"، ترى داغر أنّ "هناك العديد من التفسيرات والعوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند قياس مستوى الإنفاق على الكماليات في ظلّ الأزمة. ومن هذه العوامل:
- وجود عدد كبير من أفراد الأسر يعمل في الخارج، ويحوّل الأموال إلى ذويه في الدّاخل.
- ازدياد أعداد الأفراد الذين يعملون عن بعد مع الخارج، ويتقاضون أجورهم بالدولار النقدي.
- ارتفاع أعداد المغتربين القادمين إلى لبنان في شهري تموز وآب.
- ازدياد أعداد السّيّاح، خصوصاً مع تراجع قيمة العملة الوطنية بالمقارنة مع عملات دولهم. وهو ما يوفّر فرصة لهم للصّرف والإنفاق.
- الطبيعة الاجتماعية للبنانيين التي تعمل على استبدال الرحلات السياحية إلى الخارج وتجديد السيارة أو أثاث المنزل.. بالمزيد من النزهات إلى المطاعم. ما يساعدهم مؤقّتاً على نسيان مشاكلهم. والتعامل مع الأشياء التي ترفع معنوياتهم.
هل انتهت الأزمة؟
هذا الواقع لا يؤشّر إلى انتهاء الأزمة، بقدر ما يشير إلى تجذّرها أكثر، وتعميقها الفروقات الاجتماعية في المجتمع بشكل عامودي. فمقابل قلّة تنفق وتحصل على جميع احتياجاتها الاستهلاكية والكمالية يزداد الفقر في المجتمع. ففي تقييم سريع أجرته "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" – اليونيسيف، حول مستوى عيش الأطفال في لبنان خلال عام بدت المشهدية دراماتيكية. خصوصاً لجهة الاجراءات اليائسة التي تتّخذها العائلات للتعامل مع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية. وبحسب التقييم الأخير الذي أجري من نيسان 2022 ولغاية نيسان 2023 وضم 2090 أسرة تبيّن التالي:
- أقرّت 9 من كل 10 أسر عن عدم حيازتها حالياً ما يكفي من مال لشراء الضروريات، مقارنة بنسبة 76 في المئة قبل عام واحد.
- تضطر أسرتان من كل خمس أسر إلى بيع ممتلكاتها من أجل توفير سبل البقاء، بعد أن كانت أسرة واحدة فقط تفعل ذلك خلال العام الماضي.
- خفضت 75 في المئة من الأسر إنفاقها على العلاج الصحي، مقارنة بنسبة 60 في المئة في حزيران العام 2022.
- أوقفت 15 في المئة من الأسر تعليم أطفالها مقابل 5 في المئة قبل عام.
هذا الواقع لا يؤشّر إلى انتهاء الأزمة، بقدر ما يشير إلى تجذّرها أكثر، وتعميقها الفروقات الاجتماعية في المجتمع بشكل عامودي
سوء توزيع الخسائر
لا تدلّ هذه الأرقام أنّ أعداد الذين يعانون من الانهيار تزداد سنوياً بنسب كبيرة فحسب، إنّما على سوء توزيع الخسائر، وتحمّل الأكثرية عبء الانهيار، مقابل استفادة قلّة قليلة. وتكفي الإشارة إلى تسديد ما يقرب من 30 مليار دولار من القروض منذ بداية الأزمة بأقلّ من قيمتها الحقيقية بأضعاف مضاعفة لمعرفة كيف استفاد قلة من المقترضين على حساب جميع المودعين. هذا من دون أن ننسى الفئة التي استفادت من دعم السّلع مطلع الأزمة تخزيناً وتهريباً وبيعاً بالسوق السوداء، وتلك التي ما زالت تستفيد من ملايين الدولارات شهرياً من الدّعم غير المباشر على منصّة صيرفة. وعليه فـ"إنّ كثافة الحجوزات في الملاهي الليلية والمطاعم والمقاهي لا تعبّر عن عودة النهوض الاقتصادي إنّما عن تأقلم القطاع الخاص، ولاسيما القطاع السياحي مع الأزمة"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أنيس بودياب. "ولا يمكن التعويل على هذا التأقلم بإعادة النّهوض في ظلّ تغييب الإصلاحات الأساسية والهيكلية المطلوبة في العديد من القطاعات وفي مقدمتها القطاع المصرفي".
الأيّام القادمة ستكون حافلة بمظاهر الصّرف والبذخ، ولكنّ الأكيد أنّها لن تكون خير معبّر عن مضمون الواقع الاقتصادي والاجتماعي. فهذا التناقض سيتجذّر أكثر، وسيتحوّل لبنان إلى جزر بعضها منتعش، وأكثريتها "مفتقر"، يفتقد لأبسط مقوّمات العيش الكريم... ولعل هذا أبشع ما في الأزمات.