"سبعون" ميخائيل نعيمة وتسعون فيروز حين يلتقيان يخرج الصوت من الذكريات لينشد: "تناثري تناثري يا بهجة النظر يا مرقص الشمس ويا أرجوحة القمر". وفجأة تجد نفسك تتوقف عند كلمات بعينها "هيهات أن يعود ما انقضى". هكذا كتب نعيمة، وهكذا غنت فيروز في بداياتها الفنية. وهكذا نحن اليوم نقف وننظر من حولنا باحثين عن كل ما راح وانقضى وعن "كل اللي راحو وراحوا وبالدفاتر عندي أسامي غياب أصحابا تركوها صارت بلا صحاب".
هي التي غنّت فلسطين والقدس ولبنان و"لبيروت" والشام وغير بلد عربي ومدينة. هي التى ارتدت صوتها نصوصُ جبران خليل جبران وسعيد عقل وأحمد شوقي وإيليا ابي ماضي وطلال حيدر وجوزيف حرب ونزار قباني وغيرهم كثيرين. هي التي بثّت الروح في القصائد القديمة لعنترة بن شداد وابن زيدون وأبي نواس وجرير وجميل بثينة. من قلبي سلام لكل ما ومن غنّت.
فيروز التي صنعت مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني "وطن الغيم الأزرق" فحملنا هويته وانتمينا إليه. ورقصنا في قراه البعيدة بأعياد الفرح والشباب و"العزوبية". هي الطرق التي تحملنا إلى تلال عينطورة ومنها إلى بعلبك التي نستعير لها من البقاع الغربي قمر مشغرة لينير قلعتها الأثرية حيث لا يزال صدى صوت فيروز يحاكي نصري شمس الدين. هي رحلة على "هدير البوسطة" مع زياد إلى تنورين حيث تنتظرنا عليا و"يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين".
لبنان فيروز الذي يحتفل، اليوم، بعيدها وبعيد استقلاله يبدو حزينًا مثخنًا بالجراح. يبدو كأنّه يعيش أحد فصول مسرحية "بترا" أو مسرحية "فخر الدين". حرب وعسكر ودمار وانكسار و"غار يقطف غار" ليكلل رؤوس الأبطال. هي الحرب التي عرفها لبنان منذ احتلال فلسطين، والتي لطالما كان صوت فيروز رفيقنا في محطاتها، حين كانت المحطات التلفزيونية المحلية، ولا سيما تلفزيون لبنان الرسمي ينفض الغبار الفضي عن أرشيفه ليعيد بث الروح في مسرحيات الرحابنة وفيروز وكلّ ما يعيدنا إلى معنى الوطن والهوية. بعلبك فيروز مهدّدة كما صور الأثرية وكل لبنان الذي لطالما كان العدو يطمع بأراضيه ومياهه وأعالي قممه.
لم نستمع إلى فيروز حين غنّت في العام 1966 "أجراس العودة فلتقرع"، لم نشهر السيف حينذاك وبقيت القدس العتيقة في البال ذكرى، أغنية تروي العيون بدمع حتى لو فاض أنهراً فهو لا يقارن بما ارتوت به الأرض من دماء. فيروز لو تدرين ماذا فعلت القدم الهمجية بأشجار الزيتون وبكروم الفلاحين وبمواسم العنب والتين. لو تدرين كم قتلوا من الأطفال، وكم سرقوا من الفرح والأحلام. آه فيروز لو تدرين، لو تدرين كيف يريدون أن تصبح فلسطين!
فيروز هي الأم الحزينة التي تبكي أولادها في الجنوب والبقاع وبيروت وكل الأمكنة التي ارتدت ثوب الحداد. هي البيوت العتيقة والعصافير التي كانت تعشش في القرميد الذي اغتالته آلة الحرب الهمجية. هي "إسوارة العروس" وخاتم الخطبة.
مرّ عمر فعلاً، وكان صوتها حاضرًا في كلّ محطّاته. كانت معنا حين كنّا أطفالًا في مقعد السيارة الخلفي نسمعها كأنّها صلاة نعيد ترتيلها في خلواتنا ونزهاتنا. معها "طلعنا على الشمس طلعنا عالحرية" ورقصنا في احتفالاتنا المدرسية في زمن كانت المدارس تحتفي بالعمالقة لا بما يريده المستمعون. فيروز زمن رسائل الحب المكتوبة والورود التي خبّأتها الكتب حين كان هناك من يقرأ. هي التي رسمت صورة "جدي اللي كان يطحن للحي قمح وسهريات". معها ضحكنا وبكينا، غنّينا بفرح وأنصتنا بخشوع.
فيروز صوتك ناس صوتك وطن صوتك سما. صوتك رفيق عمرنا، ذكرى صباحاتنا، ورحلات طرقاتنا، وذكرى العشق والحب.
"أوقات بترجع بتفتح شباك ع مبارح، وبتشوف ولاد زغار وضحكات وسع الدني، أوقات بصوتها بترسم دمعتك ع ستّك اللي ما عادت عم تردّ، وقت تنده: ستّي يا ستّي".