"فتّحي يا وردة... غمّضي يا وردة"، يأتي الموفد الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت... لا يأتي إلى بيروت... يأتي... لا يأتي". تفاؤل... تشاؤم... تشاؤل، تشاؤم... تشاؤل... تفاؤل... هذه الضبابية كانت سيّدة الموقف على مدى ساعات وسط تعمّد التسابق إلى المغالاة في إيجابيات مصطنعة مرتبطة بإمكان التوصّل إلى وقف لإطلاق النار أو وقف للأعمال الحربية تخفي وراءها نقاطًا خلافية أساسية بين إسرائيل و "حزب الله".
في الأساس، سُرّب من مسوّدة الاقتراح الأميركي مقدار مجلّد، وحُكي عن تضمّنها بنوداً "مفخّخة" تحطّ في نسخة وتطير في أخرى، وأبرزها:
* ترؤس الولايات المتحدة لجنة المراقبة على تطبيق الاتفاق و"فيتو" "الحزب" على ترؤسها.
* حق إسرائيل في التدخّل في لبنان متى فشلت اللجنة في معالجة أيّ خلل تعتبر أنّه يشكّل خطرًا أمنيًا أو عسكريًا عليها، والرفض المطلق له كي لا يتحوّل لبنان إلى ضفة غربية، اليوم، إذ متى رغبت إسرائيل "تسرح وتمرح" من دون أيّ حسيب أو رقيب.
* نزع سلاح "الحزب" من جنوب الليطاني ومنع استعادة عافيته العسكرية على مساحة الـ10452 كلم2. وهذا يعني عملياً إن لم يُسحب السلاح فالصدأ يتكفّل به في ظلّ تأكيد قطع جميع طرق الإمداد.
إنّه بامتياز الوقت الضائع في انتظار إمّا أن يحسم الميدان العسكري لعبة "عضّ الأصابع" التي تحوّلت من جانب إسرائيل إلى "قطف الرؤوس" - بحيث أنّ مسلسل اغتيالاتها يتواصل، وآخر مشاهده اغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في "الحزب" الحاج محمد عفيف - بالتزامن مع التوغّل غير المسبوق براً، ومن جانب "الحزب" إلى مجرّد الصمود "وبلّي بقيوا رح منكفّي"، وإمّا أن ينطلق قطار الإدارة الجديدة في البيت الأبيض بحيث أنّ الولايات المتحدة وحدها "حديدان" في الميدان السياسي.
فالشرق الذي لطالما دعا محور الممانعة إلى الاستدارة نحوه، تبيّن أنّه لا يريد أن يتورط في مستنقع الحروب المتحركة في الشرق الأوسط. الصين تُركّز على حساباتها الاقتصادية والصناعية. أمّا روسيا، فغارقة في وحول الحرب مع أوكرانيا وتفضّل عدم الانجرار إلى مزيد من الحروب مباشرةً، بل التبرّع بلعب دور مساند في أيّ مشروع قد يُرسم للمنطقة في اليوم التالي لانتهاء الحرب.
الشرق الذي لطالما دعا محور الممانعة إلى الاستدارة نحوه، تبيّن أنّه لا يريد أن يتورط في مستنقع الحروب المتحركة في الشرق الأوسط.
أما الغرب الأوروبي، فله الحركة السياسية والديبلوماسية، وللولايات المتحدة "البركة" والكلمة النهائية في المنطقة. فيما العرب، وعلى رأسهم دول الخليج، لن يستدرجهم تعاطفهم مع القضية الفلسطينية والشعب اللبناني إلى دعم "حماس" أو "الحزب"، لذا يتحاشون التورط المباشر في هذه الحرب ويرفعون الصوت للسلام من باب "حلّ الدولتين" ومن معبر السلطة الفلسطينية من جهة، والدولة اللبنانية من جهة أخرى.
وفي الوقت الضائع، حُسم اللغط وعاد هوكستين صباح 19/11/2024 إلى بيروت في زيارة هي الثامنة منذ اشتعال فتيل الحرب في لبنان 8 تشرين الأول 2023 والثانية منذ انفجارها في 23/9/2024 عبر غارات غير مسبوقة وتوغّل بري إلى جانب اغتيال الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله. فبعد لقاء هو الأطول (ناهز الساعتين) مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، أطلّ هوكستين بموقف خاطف اقتصر على تصريح مقتضب ورفض تلقّي أيّ أسئلة، معلناً أنّ "المحادثات بناءة جدًّا ومفيدة" ، وأنّهم "مستمرّون بتقليص الثغرات" و"لدينا فرصة لإنهاء النزاع".
في زيارته السابقة في 21/10/2024، أشار هوكستين إلى أنّ الصراع الذي خرج عن السيطرة في لبنان كان من الممكن تجنّبه، لكنّ الحلول السابقة التي عمل عليها طوال 11 شهراً من النزاع "قوبلت بالرفض". كذلك شدّد على أنّ ربط مستقبل لبنان بالصراعات الأخرى في المنطقة، بما فيها الحرب في غزة، لم يكن لمصلحة الشعب اللبناني ولن يكون. وإن أعلن أنّ التزام إسرائيل ولبنان الـ 1701 "ليس كافيًا"، فقد أكّد أنّ أيّ حلّ للصراع في لبنان يجب أن يرتكز على القرار. لذا دعا الى "وضع آلية جديدة لضمان تنفيذ القرار بشكل عادل ودقيق وشفاف".
بمجرّد التجاوب المبدئي الإيجابي من قبل "الحزب" عبر الرئيس بري مع المسوّدة المطروحة، اليوم، ورغم الملاحظات والتحفّظ عن بعض النقاط التي قد تكون مسكونة بشيطان التفاصيل، يعني عملياً السير في فصل مصير لبنان عن مصير جبهة غزة كما دعا هوكستين في المرّة الماضية، وتالياً التخلّي عن وحدة الساحات. هذا التطور في موقف "الحزب"، وإن كان ربما من باب "المناورة التفاوضية" لحشر إسرائيل ودفعها هي إلى إطاحة المسودة القائمة، هو إقرار بـ"عدم صوابية" "وحدة الساحات" أو عدم استمرار جدواها.
أيّ اتفاق - حتى لو تقرّر فرضه بالنار - سيعمل عليه هوكستين اليوم ليقطفه ترامب غداً.
في الفترة الأخيرة، ثمة تأييد واسع لبناني وعربي ودولي لضرورة الـ1701، ولكن كلّ بحسب منظوره واجتهاداته، وهو ما جعل المواقف من هذا القرار الأممي كأنّها "كلٌّ يغني على ليلاه". غير أنّ تفاصيل ما يحكى عما تتضمّنه المسودّة، من لجنة مراقبة ودور "اليونيفيل" والجيش اللبناني، إذا ما أضيفت إلى دعوة هوكستين الماضية بضرورة الارتكاز على الـ1701 مع آلية جديدة لضمان تنفيذ هذا القرار قد يحرّره من أصوات النشاز التي تحاول تفريغه من مضمونه.
هوكستين تحدّث عن مواصلة العمل على تقليص الثغرات، ولكنّه على سباق مع الوقت حتى موعد 20 كانون الثاني 2025 وتسلّم الرئيس الجديد دونالد ترامب. كما أنّ المواضيع، كلجنة الرقابة على تطبيق أيّ اتفاق برئاسة أميركية أو حرية الحركة الإسرائيلية أو القضاء على ترسانة "الحزب" الصاروخية، هل هي ثغرات أم فجوات؟ يبدو أنّنا سنكون هذه المرّة في مرحلة "لعبة عض أصابع" للتخلّي عن المسوّدة وتبديد الأجواء الإيجابية... وفي أفضل الأحوال أيّ اتفاق - حتى لو تقرّر فرضه بالنار - سيعمل عليه هوكستين اليوم ليقطفه ترامب غداً.