خالد أبو شقرا

علقت السياسة المالية للحكومة اللبنانية في "وحول" الانهيار "المائعة". التّحدّيات لا تقتصر على صعوبة الخروج، إنّما على حتمية الغرق أكثر مع تكرار محاولات النجاة نفسها. ارتفاع هائل في النفقات، يموّل من طباعة النقود، يعقبهما ارتفاع في الأسعار، يحتّم إعطاء زيادة على الأجور. وهكذا يتعمّق الانهيار يوماً بعد آخر، يخدر الجسم رويداً رويداً، وتتباطأ حركات المنازعة، وينصبّ التركيز على عدم تسكير "طين" انهيار القدرة الشرائية آخر مسام التنفّس في وجوه الموظفين الشاحبة.

فقدت الزيادات التي أعطيت على رواتب موظفي القطاع العام في موازنة 2022 نصف قيمتها في غضون نصف عام فقط. فبين تشرين الأول 2022 وآذار 2023، انخفض سعر صرف الليرة اللبنانية على منصة صيرفة (تحوّل على أساسها الرواتب إلى الدولار)، من 28600 ليرة، إلى 60 ألفاً. وأصبحت رواتب موظفي القطاع العام باستثناء بعض الفئات المحظية، تتراوح بين 303 دولاراً لموظفي الفئة الأولى، و83 دولاراً لموظفي الفئة الخامسة.

[caption id="attachment_7168" align="aligncenter" width="947"] الرواتب بحسب أسعار صيرفة[/caption]

المعاناة تتفاقم

رابطة موظفي الإدارة العامة التي تعدّ حوالي 30 ألف موظف في الوزارات والمؤسسات العامة، مدّدت إضرابها العام لغاية انعقاد جلسة جديدة لمجلس الوزراء، تقرّ حلّاً مرضياً لانهيار الرواتب. "وعلى الرغم من عدم تفاؤلنا بالمقرّرات التي ستنتج عن أي جلسة حكومية، إلّا أنّ ربط الإضراب بالجلسة الحكومية المقبلة، أتى كبادرة حسن نيّة من الرابطة"، تقول رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر. "فهذه السلطة وضعت نصب أعينها هدف واضح، يتمثل بالتضييق على الموظفين لامتصاص آخر نقطة دم من عروقهم. وأركانها لا يشعرون بحجم المعاناة والمآسي التي تصيب الموظفين وتهدد بقاءهم وبقاء عائلاتهم على قيد الحياة، حرفيا وليس مجازياً". فالرواتب المتهاوية التي لا تكفي لتسديد ثمن فاتورة مولّد الاشتراك، تترافق مع غياب الضمانات الصحية والاستشفائية وعجز فاضح عن تأمين الأدوية. هذا عدا طبعاً عن العجز الفاضح في تأمين المتطلبات الحياتية من مأكل وملبس ومسكن لائق.. وبقية الحقوق البديهية التي تنصّ عليها شرعة حقوق الانسان. وهذا الواقع الأليم يدفع بحسب نصر إلى ظهور حالات مأساوية بين صفوف الموظفين الذين يّسمّون "أبناء دولة"، وهم نخبة الموظفين، سواء كان لجهة مستواهم التعليمي ودخولهم الإدارة العامة بامتحانات ومؤهلاتهم الوظيفية وخبرتهم الطويلة.

الكلفة بآلاف المليارات

التراجع الهائل في القيمة الشرائية لرواتب موظفي القطاع العام بمختلف مسمياتهم الوظيفية، يقابله إنفاقٌ ماليٌ هائل. فبحسب الأرقام، بلغ حجم كتلة الأجور لشهر آذار الفائت 70 مليون دولار. وقد جرى دفعها على أساس 60 ألف ليرة للدولار الواحد على منصة صيرفة. ما يعني أنّ قيمة الأجور بالليرة اللبنانية بلغت في شهر واحد 4200 مليار ليرة، وهي تفوق الاعتمادات الباهظة المخصصة في الموازنة العامّة للرواتب والأجور، والتي تبلغ قرابة 3300 مليار ليرة لبنانية. المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ، إنما تتعدّاها إلى فشل هذه الرواتب بإعادة تشغيل الجزء الأكبر من المؤسسات والمرافق العامّة. فالإدارة العامة مشلولة، والتعليم المهني معطّل، وأكثر من نصف أساتذة الثانوي لا يداومون في ثانوياتهم، و30 في المئة من معلّمي التعليم الأساسي لا يحضرون. والأفراد في الأسلاك الأمنية يخدمون لأيام قليلة في قطعهم وثكناتهم، ويعملون باقي الأيام في أعمال متفرقة. وعليه فان المبالغ التي تموّل بـ "التضخم"، لا تؤدّي إلى زيادة الانتاجية في القطاع العام، إنّما العكس فهي تفاقم الأمور سوءاً.

في المقابل يظهر أنّ المطالب المحقّة بزيادات على الأجور، قد تصل سنوياً إلى أكثر من 70 ألف مليار ليرة، والتي ستتآكل سريعاً نتيجة ارتفاع سعر الصرف في السوق الثانوية. ونعود بعد أيام قليلة إلى المشكلة نفسها مع فارق أساسي هو كتلة أضخم بما لا يقاس بالليرة، تتحوّل طلباً على الدولار بشكل مباشر وغير مباشر. فالأكيد أنّ غرق البلد في الاقتصاد النقدي الأسود وارتفاع معدلات التّهرّب والتهريب وغياب الرقابة سيفَوّتان على الحكومة الاستفادة من أي خطة إصلاح ضريبي، وسيعود الحمل الأثقل على المؤسسات النظامية القليلة والأفراد الملتزمين. وأمام هذا الواقع يظهر بوضوح أنّ "أي تفصيل في الأزمة اللبنانية مهما كان صغيراً، لا يمكن إيجاد حلٍّ له بالطريقة الترقيعية المتّبعة"، برأي الباحث في الاقتصاد السياسي البروفيسور بيار خوري. "وهذا هو لبّ المشكلة. فالحلول الترقيعية استنفدت على كامل الأصعدة. وفي ما يتعلق بالموظفين، فإنّ

أي زيادة على الأجور في دولة غير منتجة ولديها عجز يفوق 10 آلاف مليار ليرة، على الرغم من استثناء مدفوعات الكهرباء وخدمة الدين العام، يعتبر مستحيلاً. "ولا يمكن الاستمرار بالأخذ من الاقتصاد المنتج الأبيض لتمويل عجز الدولة"، يقول خوري. "ولعلّ الدولار الجمركي أبرز دليل على فشل هذه المحاولات، إذ أدّى رفعه إلى 45 ألف ليرة إلى تجميد البلد. وأي ضريبة جديدة في هذا الإطار سيكون لها المفعول السلبي نفسه. وللمثال أدّت زيادة تعرفة الاتصالات الخليوية واحتسابها على منصّة صيرفة إلى تراجع عائدات القطاع، وتوجّه عدد كبير للاستغناء عن الخدمة".

ما سبق وحكي لا يعني أنّه لا يوجد حلول لمشاكل الدولة عموماً، ورواتب موظفي القطاع العام خصوصاً، إنما الحلول يجب أن تكون من وجهة نظر خوري من قماشة "فصل الصّالح عن الطّالح في القطاع العام، وإعادة هيكلة مؤسساته وتنظيمها. وطالما نعجز عن المضي بمثل هذه الحلول فنكون نراكم الأعباء وندمّر الاقتصاد.. "فالدّولة في نهاية المطاف تعتبر Cost Benefit، بمعنى أنّها يجب أن تعطي أكثر مما تأخذ"، بحسب خوري. و"طالما هي تأخذ أكثر مما تعطي وتعجز عن المحاسبة والمساءلة، فستبقى تدور في حلقة الأزمة المفرغة، ولكن بوتيرة أسرع".