في حادثة هزت الرأي العام اللبناني والعربي، قُتلت الصحافية عبير رحال داخل المحكمة الجعفرية في بلدة شحيم، في جريمة مروعة ارتكبها زوجها وكشفت مرة أخرى عن حجم المأساة التي تعيشها النساء في ظل العنف الأسري وثقافة التمييز.

الجريمة لم تتوقف عند القتل، بل استغل الزوج منصة "فيسبوك" لنشر فيديو يشوّه فيه سمعة زوجته، متّهماً إيّاها بالخيانة، في محاولة لتبرير فعلته أمام المجتمع. هذا التصرف يعكس جانباً مظلماً آخر للعنف ضد النساء لا تقتصر فيه الإساءات على الأفعال الجسدية، بل تمتد لتشويه السمعة والإذلال النفسي حتى بعد الموت.

الزوج أنهى حياته منتحراً، تاركاً أطفاله في حالة من اليُتم والصدمة، ما يسلّط الضوء على التداعيات العميقة لمثل هذه الجرائم على الأسر، بخاصة الأطفال الذين يتحملون أعباء نفسية واجتماعية طويلة الأمد.

جرائم قتل النساء في لبنان والعالم العربي

على الصعيد الإقليمي، تُظهر الإحصائيات أن ما بين خمسة آلاف إلى 20,000 امرأة يُقتلنَ سنوياً في العالم العربي بسبب قضايا تتعلق بـ"الشرف." ومعظم هذه الجرائم لا يحصل على العدالة الكافية بسبب القوانين غير الرادعة التي غالباً ما تعطي تخفيفاً للعقوبات بحجة الظروف الاجتماعية أو النفسية للجناة.

أما لبنان، وكغيره من الدول العربية، فيشهد ارتفاعاً مقلقاً في جرائم قتل النساء. فقد وثّقت تقاريرُ منظمات حقوق الإنسان العديدَ من الجرائم المشابهة في السنوات الأخيرة، حيث يقتل الرجال زوجاتهم أو يتولّى القتلَ أحد أفراد عائلاتهن تحت ذرائع مثل "الشرف" أو الخيانة.

وفقاً للإحصائيات الصادرة عن قوى الأمن الداخلي التي حصل عليها موقع "الصفا نيوز" ارتفع عدد جرائم قتل النساء والفتيات في لبنان لعام 2024 إلى 26 جريمة. فمع بداية شهر كانون الأول من العام 2024، أشارت الإحصائيات إلى أن 25 امرأة وفتاة قُتلن هذا العام. ومع مقتل عبير، ارتفع العدد إلى 26 جريمة بحق النساء والفتيات لعام 2024. هذا العدد يشمل النساء من الجنسيات اللبنانية والسورية والفلسطينية داخل لبنان، وليس فقط اللبنانيات".

وبحسب هذه الإحصائيات، تم تصنيف أسباب الجرائم ضمن فئات متعددة، منها الخلافات العائلية والعنف الأسري، بالإضافة إلى أسباب أخرى.

في هذا الإطار، قالت الباحثة والناشطة في مجال حقوق المرأة مريم ياغي في حديثها لموقع "الصفا نيوز" إنّ "العدد الإجمالي لهذه الجرائم لا يمكن حصره بشكل دقيق كجرائم قائمة على النوع الاجتماعي فقط، ولكن الأرقام المسجلة لعام 2024 تشير إلى هذا العدد وفقاً لإحصائيات قوى الأمن الداخلي. أما بالنسبة لجريمة مقتل عبير الأخيرة، فإنها تندرج ضمن هذا الإطار المأساوي".

وعن الفيديو الذي نشره المجرم بعد ارتكابه جريمته، والذي يبدو أنه أعدّه مسبقًا ليبرر فعلته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قالت ياغي: "هذا التصرف، إن دل على شيء، فإنه يدل على مدى استعداد المجتمع لتقديم المبرّرات والتخفيف من وطأة الجرائم التي يرتكبها الرجال، وتحديدًا القتلة، بذريعة الشرف أو بدعوى أن من حق الرجل أن ينتقم من المرأة التي تخصه، سواء كانت زوجته أو ابنته أو أخته أو طليقته أو حتى حبيبته، ما يظهر كيف يشعر هذا النوع من الرجال، نتيجة ما ورثه عن أعراف المجتمع وقناعاته، بأن له الحق في أن يكون صاحب القرار النهائي في حياة المرأة، معتقدًا أنها جزء من ممتلكاته. هذه الجرائم تبرز بوضوح كيف يرسّخ المجتمع هذه الأفكار في عقول الرجال، ويعزّز لديهم الشعور بأن من حقّهم امتلاك المرأة إلى الأبد، وأن عليهم "تأديبها" في حال لم تتوافق تصرفاتها أو قناعاتها مع المعايير المجتمعية المفروضة".

القانون اللبناني يعاني من قصور واضح في حماية النساء

للأسف، هذه التقاليد والموروثات الثقافية تقدم مبررًا سهلًا ومباشرًا لأي شخص يريد أن يبرّر مثل هذه الجرائم. وهكذا، يصبح القاتل على يقين بأن تقديم هذه المبررات للمجتمع سيجعل الأخير يغفر له، بل وربما يمنحه الحق والتعاطف، ما يخفف عنه عبء الجريمة نفسيًا ومعنويًا.

المصيبة والطامة الكبرى الثانية التي وقعت برأي ياغي، تتمثل في أن هذه الجريمة حدثت داخل أحد أروقة محاكم العدالة في لبنان، تحديدًا في المحكمة الشرعية. فقد دخل الجاني إلى المحكمة مسلحًا، وأطلق النار على الضحية، فقتلها. ثم خرج الجاني من المحكمة وكأنه لم يفعل شيئا. هذا المشهد يعكس بشكل صارخ الاستهتار الأمنيو اللامسؤولية والاستخفاف بحياة النساء، ويجسد الفلتان والفساد الإنساني في أبشع صوره".

فهذه المحاكم التي "تدعي أنها الحامية لحقوق المواطنين، خصوصًا حقوق النساء، والتي تديرها منظومة أبوية" بحسب تعبير ياغي، تقف ضد حقوق النساء، وتتنازل عن حقوقهن. وتتكرر أمامنا يوميًا الشواهد على انتهاك حقوق النساء، ومعاقبتهن على قراراتهن الخاصة، مثل قرار الطلاق. و يتم أحيانًا حرمان النساء من حقوقهن، أو حتى من أطفالهن، في تعاون بين هذه المحاكم والرجال للضغط على النساء وإبقائهن تحت سيطرة الرجل.

وأخيرا، تكتمل هذه الجريمة في سياق فساد المحاكم ومنظومة الدولة بأكملها، إذ تمكن الجاني من دخول المحكمة مسلحًا، وقتل الضحية، ثم هرب من المكان ليقتل نفسه قبل أن تتحرك الدولة لمحاسبته. وهنا تسأل ياغي "كيف سمحت المحكمة بدخوله مسلحًا؟ هذا المشهد يعكس فسادًا، استهتارًا، وفقدانًا للأمل في العدالة. العدالة في هذا السياق هي رسالة إلى أرواح النساء والفتيات اللاتي يدفعن ثمن هذا الاستهتار، وهذه المنظومة القانونية التي تم إنشاؤها لتعزيز سلطة الرجل".

مخاطر وأبعاد هذه الجرائم

المتخصصة في علم النفس لانا قصقص شرحت من جهتها في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ هذه الجرائم لها آثار وخيمة وتداعيات قاسية من أبرزها أولاً: الأثر الاجتماعي والنفسي، إذ تؤدي هذه الجرائم إلى تفكك الأسرة وترك الأطفال في حالة من عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي. وهي تعزز أيضا ثقافة الخوف والتبعية بين النساء. ثانياً: تعزيز التمييز ضد المرأة، فاستمرار مثل هذه الجرائم دون ردع قانوني كافٍ يعزز الصورة النمطية السلبية عن النساء، ويجعل المجتمع يتسامح مع العنف الموجّه ضدهن. ثالثاً: غياب العدالة والمحاسبة، حيث أن القوانين الحالية في العديد من الدول العربية تعاني من ثغرات تتيح للجناة الإفلات من العقاب أو الحصول على أحكام مخففة، وهو ما يشجع على تكرار هذه الجرائم. رابعاً: التأثير الاقتصادي، إذ تؤثر هذه الجرائم بشكل غير مباشر على الاقتصادات المحلية من خلال تعطيل دور المرأة في المجتمع كعنصر منتج وفاعل.

ماذا يقول القانون اللبناني؟

تشرح مصادر قانونية في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ القانون اللبناني يعاني من قصور واضح في حماية النساء من العنف الأسري. ورغم إقرار القانون رقم 293 لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري في عام 2014، فإنه لا يزال يواجه عقبات في التنفيذ، بسبب تأثير المحاكم الدينية واختصاصها في قضايا الأحوال الشخصية. فعلى سبيل المثال، تُعتبر المحاكمُ الجعفرية التي وقعت فيها جريمة عبير رحال مثالاً على تضارب السلطات بين القانون المدني والقانون الديني. كما أنّ القوانين اللبنانية لا تعترف بوضوح بالعنف النفسي أو المعنوي، ما يترك النساء عرضة للإساءة دون حماية كافية.

أما على المستوى الدولي، تقول المصادر، فالعديد من الاتفاقيات يعترف بحقوق المرأة وحمايتها من العنف، ومنها اتفاقية سيداو CEDAW التي ترفض جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل الحق في الحياة والأمان الشخصي، واتفاقية إسطنبول التي تُلزم الدول باتخاذ تدابير شاملة لحماية النساء من العنف.

لكنّ لبنان، رغم توقيعه على بعض هذه الاتفاقيات، لم يُدرج جميع بنودها ضمن تشريعاته الوطنية، ما يجعل تنفيذها محدوداً وغير فعّال.

أما الحل برأي المصادر القانونية فيكمن في تعزيز القوانين المحلية من خلال تعديل القوانين اللبنانية لسد الثغرات التي يستغلها الجناة، بخاصة ما يتعلق بتخفيف الأحكام في الجرائم المتعلقة بـ"الشرف،" أوّلاً، ثمّ إلغاء سلطة المحاكم الدينية عبر نقل صلاحيات الأحوال الشخصية إلى المحاكم المدنية سيضمن تطبيق قوانين موحّدة لحماية النساء. ثالثاً، تعزيز حملات التوعية المجتمعية لتغيير المفاهيم الثقافية التي تبرر العنف ضد النساء، وأخيرا تفعيل دور الجمعيات، حيث أن الجمعيات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان تلعب دوراً محورياً في تقديم الدعم للنساء وتعزيز مناصرة القضايا النسائية.

في المحصّلة، جريمة عبير رحال ليست مجرد مأساة فردية، بل هي انعكاس لصورة أوسع للعنف الممنهج ضد النساء في لبنان والعالم العربي. الحاجة مُلحّة لاتخاذ إجراءات جذرية لحماية النساء وضمان تطبيق العدالة بشكل عادل ورادع. فبدون تغييرات حقيقية في القوانين والمفاهيم الثقافية، ستبقى النساء ضحايا للعنف في مجتمع لا يحميهن بشكل كافٍ.