قد يكون الصَّمت أو السُّكوت، أبلغَ ما نعبِّر به، حين تتجاوز الأحداث كلَّ عقل ومنطق. صمتٌ مألوم غاضب، يطوي آلاف الصَّفحات المملوءة كلامًا على القيم والعبر والقوانين والدَّساتير والشُّرع والمؤسسات وحقوق الإنسان!!!

ويحَك، مجتمعًا دوليًّا، شيطانًا أخرس ساكتًا، ولكن عن حقٍّ لأهل حقٍّ، على أرض حقٍّ، يدمِّرها ببشرها وحجرها، شيطانٌ أصغر، لا يرتوي من دم، ولا يشبع من جثث... وأنتَ أبله متآمرٌ عاجز متواطئ، تُعمل السِّكِّين في جراحنا، وتصفِّق للجلَّاد.

لذا أسأل:

هَلْ أَبْلَغُ الْأَدْعِيَةِ السُّكُوتُ؟

سَكَتُّ،

مَاتَ بَعْضُنَا،

وَآخَرُونَ قَدْ نَجَوْا،

لَعَلَّنِي عَمَّنْ صُرَاخُهُمْ أَسِيرُ صَمْتِهِمْ،

أَصُوتُ،

لَعَلَّنِي أُحْيِيهُمُ، إِذْ عَنْهُمُ، أَمُوتُ.

وها هم الشُّهداء... لم تعد بياناتٌ تتَّسع لتعداد أسمائهم. من قال إنَّهم مجرَّد أسماء؟ من قال إنَّهم، وإن استشهدوا، بلا موقف، لا يصرخون في وجه من قتلهم، ذاك الشَّيطان الأصغر نفسه، بـ"بركة" الشَّيطان الأكبر؟ يصرخون ليؤكدوا أنَّهم على قيد النِّضال ولو تحت التُّراب، وأنَّهم على قيد الرجاء، وإن راقدين.

سمعت شهيدًا، منهم، ينادي بأعلى جراحه:

يَا تُرَابِي يَا تُرَابِي

فِيكَ أَوْدَعْتُ شَبَابِي

وَجَعَلْتُ الْحَقَّ تَاجِي

وَالشَّهَادَاتِ كِتَابِي

سَوْفَ أَبْقَى فِيكَ حُرًّا

فَاسْتَعِدْنِي مِنْ غِيَابِي.

وما بالك بأبرياء... ظنُّوا أن مدنيَّتهم درعُ حماية لهم. يُستشهدون، أفرادًا من عائلة واحدة، أو عائلة بأفرادها كاملين ما خلا من سبقهم منها إلى الاستشهاد. سقفُ بيتهم الحديدُ طمرَ رؤوسهم، وركنُ بيتهم الحجرُ... هوى، ولا من طُمأنينة. عفوَك ميخائيل نعيمة.

كأنِّي بهم، ذاك الذي شيَّع نفسه، ولم يحضر جنازته إلَّا قاتله:

رَمَاهُ جُثَّةً كَأَنْ مَا قَتَلَهْ

هُنَاكَ فِي صَحْرَاءِ نَفْسٍ قَاحِلَهْ

مَاتَ وَحِيدًا، لَا صَدِيقٌ، لَا أَخٌ

لَهُ، وَلَا حَبِيبَةٌ أَوْ عَائِلَهْ

لَا مَنْزِلٌ، وَالْمُلْكُ جَيْبٌ فَارِغٌ

وَفِكْرَةٌ وَرُؤْيَةٌ وَأَسْئِلَهْ.

أَفْرَغَ مُلْكَهُ، فَتَابُوتًا غَدَا

وَحَوْلَهُ السُّكُونُ أَرْخَى أَثْقَلَهْ

حَتَّى الْعَصَافِيرُ الَّتِي إِذْ حَلَّقَتْ

مَا صَفَقَتْ بِالرِّيشِ إِلَّا رَاحِلَهْ

حَتَّى الْأَزَاهِيرُ غَفَتْ فِي مَهْدِهَا

شَاءَتْ تَبِينُ لِلْعِيَانِ ذَابِلَهْ

مَا أَحَدٌ صَلَّى عَلَيْهِ... أَوْ بَكَى

فَأَدْرَكَ الدُّنْيَا سِنِينَ بَاطِلَهْ

شَيَّعَ نَفْسَهُ إِلَى مَثْوًى أَخِيرٍ -

لَمْ يَجِدْ فِي الدَّفْنِ إِلَّا قَاتِلَهْ.

جنوبُ، بقاعُ، ضاحية جنوبيَّة... قل لبنانَ كلَّه، أرض مهجورة يسكنها الدُّخان ورائحة الموت. هل تركها أهلُها جميعًا، إذ لم يتسنَّ لأحدٍ دفنهم فيها؟ أين دُفن الذين غابوا؟ هل غافلوا الموت، وأطلقوا العِنان لأشرعة الغضب، تبحر بهم إلى غدٍ لم تبزغ شمسُه بعد؟

لمَ رحلوا قبل أن يودعوا؟ حتى كلمة الوداع بقيت عالقة في الحلق، أو وُجدت شتلةَ تبغ يابسة على عتبة بيت؟

لمن تركوا تلك الأرض؟ للمحتل؟

حاشا.

هل تركوها، إذًا، لمن بقي من أبنائهم على قيد الحياة؟

أجل.

ولكنْ متى يعودون، فتلبس تلك الأرضُ أخضرها وزرقة السَّماء؟

قريبًا، بين رفَّة جفن، وصفقِ جناح عصفور.

أواثق أنت؟

هؤلاء أهلي... وليس أحدٌ غيري يعرفهم مثلي. غدًا يعودون، وإلى ذاك الحين، أراني أَلْهُو بِذِكْرَاهُمْ وَحِيدًا:

غَابَ أَهْلِي لَمْ يَعُدْ مِنْهُمْ أَحَدْ

أَخَذُوا أَيَّامَ أُسْبُوعِي جَمِيعًا مَعَهُمْ

حَتَّى الْأَحَدْ.

وَبَقِينَا وَحْدَنَا فِي سَاحَةِ الدَّمْعِ:

جُفُونًا عَبَثًا تَبْحَثُ عَنْ مَاءٍ وَخَدْ

وَظِلَالًا هَرَبَتْ فِي سِرِّهَا

مِنْ لَهْوِ غُصْنٍ وَوَلَدْ.

وَلَدٌ أَشْتَاقُ ظِلّي

أَيْنَهُمْ أَهْلِي وَقَدْ

كَتَبُوا الْحَوْرَ عَلَى قَامَاتِهِمْ، ثُمَ مَشَوْا،

لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ حَوْرَةٍ حَتَّى وَتَدْ

حَزَمُوا الْبَحْرَ عَلَى أَكْتَافِهِمْ

لَمْ يَبْقَ لِي إِلَّا الزَّبَدْ.

مَلَأُوا الزُّرْقَةَ، فِي تَرْحَالِهِمْ، أَجْنِحَةً

قَدْ حَجَبَتْ، فِي صَفْقِهَا، وَجْهَ الْجَلَدْ...

غَابَ أَهْلِي لِلْأَبَدْ

وَأَنَا جَمْرُ انْتِظَارِ

أَيُّ نِيرَانٍ تُعَانِي مِثْلَ نَارِي

وَلَدٌ... وَحْدِي،

وَسَاحُ الدَّمْعِ قَلْبِي

أَيْنَهُمْ؟ نَادَيْتُهُمْ، نَادَيْتُهُمْ، نَادَيْتُهُمْ...

عَادُوا عَلَى مَتْنِ الْقَوَافِي وَالنَّدَى،

عِطْرًا وَيَدْ

يَقْطِفُونَ الصُّبْحَ مِنْ عَيْنَيَّ وَرْدًا

كُلَّ غَدْ.

وَأَنَا أَلْهُو بِذِكْرَاهُمْ وَحِيدًا.

مَنْ يَحِيكُ الشَّمْسَ لِلْأَيَّامِ

ثَوْبًا مُذْهَبًا... إِلَّا وَلَدْ؟