كلُّ كلام يعجز أمام عباءةِ الدَّم التي دثَّرت خارطة لبنان، من أحلامه إلى آلامه.

كلُّ أمر يهون أمام التَّعامي والمكابرة والادِّعاء.

أن تولد أعمى، أو تعمى بفعل حادث، فهذه "إرادة ألله"، على ما يقال... أمَّا أن تتعامى... فهذه إرادة الشَّيطان الذي فيك، قريبِ الشَّيطان الأصغر الذي يفتك بأهل لبنان قتلًا وتهجيرًا، وبلبنان حقدًا ودمارًا، وقريبِ الشَّيطان الأكبر الذي يعطي صغيرَه الضَّوء الأخضر، ليرتكب هذا الإجرام، من دون أن يرفَّ له جفن، خدمة للإله الأخضر.

أن تكون كبيرًا - ما أنبل أن تكون كبيرًا - فالكِبَر يقربك من ألله.

أمَّا أن تتكابر، والمكابرة صنف ثان من التَّعامي، فالشيطان الذي فيك أو الذي زرعوه فيك، يجعلك في تلك اللحظة طاووسًا، من دون أن يلفتك إلى أن صوت الطاووس بشع جدًّا، فيا ليتك تسمع نفسك، حين تتكلَّم.

أن تكون حامل راية حرِّيَّة التَّعبير والمعايير الأخلاقيَّة للعمل الصحافي، فيعني أنَّك ابن أصل وابن أصول، وابن بيت.

أمَّا أن تتصرَّف بممارستك عملك الإعلامي، عكس ما تؤمن، فأنت يسكنك شيطان الادِّعاء، فلا تسقط من عين النَّاس، فحسب، إنما تسقط أيضًا من عين الحقيقة.

حين أسترجع تاريخ لبنان، في خضمِّ ما يشهده اليوم من مجازر شيطانيَّة، صغرى وكبرى، ووسط الخطر المحدق به من أربع جهات الأرض، وفي غمرة التَّخلِّي العربي والدَّولي عنه، والصَّمت العالمي المريب، أميل إلى اختصاره بثلاثة أبيات شعرية لسعيد عقل، الشَّاعر الأعظم مذ وُلد الشِّعر، المتضلِّع من هذا الوطن العميق في التَّاريخ والمتسامي في خدمة الإنسانيَّة، والعارف الأمثل به، وصنوه الأكثر إشراقًا ووضوحًا وتجسُّدًا.

العنوان العريض لهذا التَّاريخ بيتٌ من قصيدة شاعر "كما الأعمدة"، في الشَّاعر شفيق المعلوف، ألقاها عام 1977، في زحلة، حيث أقيم للمعلوفي احتفال وتمثال. صدح سعيد عقل، بملء حَنجرته وعنفوانه المعرفي:

... "وَقَالَ مِنْ خَطَرٍ، نَمْضِي إِلَى خَطَرٍ

مَا هَمَّ، نَحْنُ خُلِقْنَا، بَيْتُنَا الْخَطَرُ".

وهل من لزوم لشرح؟

وهل تخيف أهلَ لبنان، المتضلِّعين من جبه الخطر، طعنةُ خنجر من شيطان صغير، يشحذه له معلمُّه الشَّيطان الكبير؟

وبما أنَّ الخطر بالخطر يُذكر، ليس أفضل من بيت للشَّاعر الَّذي جَمُلت قصائده أكثر بصوت فيروز، وبلحن الأخوين رحباني، يخبرُ من يعرف ومن يجهل، من هم أهلُ لبنان، وأيَّ مسايفةٍ مع الخطر يلعبون، حين يدهمهم عدوٌّ أو غاصب أو غازٍ أو محتلٌّ، وما أكثرَهم في تاريخه الطَّويل. كتب شاعر "رندلى":

"أَهْلِي... وَيَغْلُونَ، يَغْدُو الْمَوْتُ لُعْبَتَهُمْ

إِذَا تَطَلَّعَ صَوْبَ السَّفْحِ عُدْوَانُ".

أمَّا في أزمنة السِّلم الَّذي كان يسود، ولو لحظةً، فليس لبنان فيها إلَّا ما تكون عليه الأمم الصَّغيرة الَّتي تعرف كيف تلعبُ اللُّعبة الكبيرة، فتبزّ الكبار عطاءً وحضورًا ومعرفة وتأثيرًا وفعلًا، وإذا ما توسَّعت فليس لكي تحتلَّ، بل لكي تنشر وصيَّة الإله إيل: "إزرعوا المحبَّة، تحصدوا السَّلام". وهل أرقى، لتجسيد هذه الحقيقة، من بيت شاعر "قدموس" القائل:

"لَا تَقُلْ أُمَّتِي وَتَحْتَلَّ دُنْيَا

نَحْنُ جَارٌ لِلْعَالَمِينَ وَأَهْلُ".

إذًا هي حرب وجود وبقاء مستمرَّة مذ كان لبنان، على الأقلِّ تاريخًا حضاريًّا قبل ستَّة آلاف عام. أما الحرب الَّتي ما زال يجرجر أذيال انعكاساتها، فقد شُنَّت عليه فعلًا منذ انتهاء حرب الأيَّام السِّتَّة، بين الشيطان الأصغر والعرب، في حزيران 1967. كلُّ القصَّة، في من اختاروا لبنان مسرحًا لتلك الحرب، أنَّ ثمَّة شعبًا فائضًا في هذا الشَّرق التَّعس، لا دولة له، فليكن لبنان بديلًا منها.

سقطت كلُّ المحاولات لإلغاء لبنان، وكلَّفته مقاومتُه هذا المشروع الشَّيطانيَّ آلاف الشُّهداء، وخسائر بالمليارات، والأدهى أنَّها أخَّرته عن مواصلة عطائه في خدمة البشريَّة، هو الَّذي أسهمت ستَّة من عطاءاته في ثلثي الحضارة العالميَّة.

"أَهْلِي... وَيَغْلُونَ، يَغْدُو الْمَوْتُ لُعْبَتَهُمْ
إِذَا تَطَلَّعَ صَوْبَ السَّفْحِ عُدْوَانُ".

لبنان وطن، قل أمَّة كاملة مكتملة العناصر والمقوِّمات. وجاء من يريد أن يعدَّه خطأ جغرافيًّا، أو جزءًا من كلٍّ، أو لزوم ما لا يلزم، فيجعله ساحًا لتصفية الحسابات. وهذا الَّذي جاء لم يتعب بعد، ولم ييأس. يجترُّ محاولاته اليائسة، لعلَّ وعسى، وليس آخرها هذه المرَّة، مستندًا إلى جهلة بتاريخ لبنان، وطارئين على نسيجه الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ، إدخال الوطن العاصي على الزَّوال والانكسار، في مخططاته الفاشلة مسبقًا.

وهذا الشَّعب اللُّبناني الذي يُستشهد، فرادى وزرافات،

والذي يحمل بيتَه على كتفه ويمشي، مهجَّرًا كرامته ملءُ جبينه،

والذي لا يؤلمه دمارٌ ألحِق ببيته، ولو سُوِّي بالأرض،

والذي لا تعنيه جلسة لمجلس الوزراء، فيما طريق "تهجيره" الموقَّت بحثًا عن أمان، تستغرق منه للوصول إلى الأمان، ساعات قاتلة،

والذي لا يهمُّه ماذا قال هذا الوزير أو صرَّح ذاك النائب، أو حلَّل ذلك الصَّحافي أو الخبير الاستراتيجي، فكلُّه كلام معلَّب فاسد في مستودعٍ لتاجر فاجر...

هذا الشَّعب اللُّبناني، كمن يدُه على الزِّناد، ما إن يقفَ إطلاق النَّار، حتَّى يشهرَ مفتاح البيت، ويعود، أينما كان، وقبل انبلاج الفجر، ولو إلى خربة، ينصب عليها خيمة، ثم يبني بيتًا آخر. يتذكَّر شهداءه. ويروح يتجذَّر أكثر فأكثر في الأرض.