أدهشت طائرة مدنية مذيّلة بالعلم اللبناني العالم ليل 20 تشرين الأول 2024 وهي تخترق ألسنة نيران الصواريخ، هابطةً على مدرج مطار رفيق الحريري الدولي. ولم تبخس الصورة، التي تبيّن في ما بعد أنها مركّبة، شركة طيران الشرق الاوسط "الميدل إيست" حقّها بالشجاعة والاستمرار في وصل لبنان بالعالم برغم تصاعد الحرب، ودوران رحاها على بعد أمتار معدودات من المطار الوحيد في البلاد. إذ حفلت الفضاءات الإعلامية بصور من الأرض والجو لطائرات لبنانية تحلق بين أعمدة الدخان، بالتوازي مع شن مقاتلات العدو غاراتها على العاصمة ومختلف المناطق.
أثارت الأيام الأولى التي أعقبت دخول حزب الله معركة "طوفان الاقصى" في 8 تشرين الأول 2023، القلق على مطار رفيق الحريري الدولي. خصوصًا أنّه كان أولى المنشآت التي استُهدفت في ثاني أيام عدوان تموز من العام 2006، في إطار خطة حصار لبنان وقتذاك. وخوفًا من تكرار السيناريو نفسه، علّقت العديد من شركات الطيران رحلاتها إلى لبنان، وعمدت شركة طيران الشرق الأوسط إلى نقل بعض طائراتها إلى المطارات القريبة، وأبرزها مطار قبرص. ترافق ذلك مع خفض التأمين 80 في المئة على الطائرات. ولكن من بعد اتضاح الرؤية، والتيقّن من أنّ الحرب ستبقى محصورة في المناطق الجنوبية ولن تخرج عن "قواعد الاشتباك"، وتلقّي ضمانات دولية بعدم استهداف المطار، عادت الحركة إلى ما كانت عليه سابقًا. حتّى إنّ لبنان شهد في الأشهر اللاحقة فورة في أعداد الرحلات القادمة والمغادرة استمرّت حتى 23 أيلول المنصرم.
"الميدل إيست" وحدها في الساحة
مع توسعة العدو الإسرائيلي اعتداءاته على كلّ لبنان منذ فجر 23 أيلول، علّقت غالبية شركات الطيران الأجنبية والعربية رحلاتها من بيروت وإليها. وتدريجيًا، تحوّل التعليق المؤقّت لرحلات الشركات الدولية، والذي يخضع لمراجعة يوميّة، إلى تعليق دائم، ابتداءً من مطلع تشرين الأول الماضي. ولم يبق في الميدان إلّا النّاقل الوطني، شركة طيران الشرق الأوسط . فاستمرّت في العمل بطاقتها القصوى برغم المخاطر الأمنية المتزايدة يومًا بعد آخر، وتفاقم التحديات الاقتصادية التي ترفع التكلفة التشغيلية. إذ اقتصر العمل على إجلاء المغادرين وعودتها في الكثير من الأحيان فارغة، أو بربع سعتها، في أحسن الأحوال. وقد لفت موقف الميدل ايست هذا الصحافة العالمية. فوصفت صحيفة "Neue Zürcher Zeitung" ملّاحي الشركة بـ"أبطال السماء الجدد"، لافتةً إلى المرونة التي يتحلّى بها اللبنانيون في مواجهة الأزمات والتحديات.
لم يكن الاستمرار في الطيران عملًا متهوّرًا أو انتحاريًا، بل مبنيًا على تواصل يومي بين "الميدل إيست" والحكومة اللبنانية، وبينهما وبين سفراء الدول الأجنبية. ولم تكن هذه العملية لتستمرّ لولا وجود ضمانات بعدم التعرّض للطائرات والمطار"، يؤكّد نقيب مكاتب وكالات السياحة والسفر في لبنان جان عبود. ففي عالم الطيران، تأتي السلامة أولًا. ومن المستحيل على أيّ شركة أن تعرّض المسافرين وأطقمها وطائراتها للمخاطر وإنْ كانت صغيرة، فكيف الحال في ظلّ حرب عشواء، وإمطار القرى والمدن، والأحياء المحاذية بآلاف الأطنان من القنابل. كلام عبود يتقاطع مع تصريحات إعلامية لمسؤولين من الشركة عن متابعة الأوضاع الأمنية لحظة فلحظة والتعامل معها بدقّة ومسؤولية. إذ كان يتمّ تأخير الهبوط والإقلاع عقب الاستهدافات الصاروخية، وما ينجم عنها من دخان أسود كثيف. بيد أنّ هذا لا ينفي تمتّع أطقم الملاحة بشجاعة استثنائية، ورغبة عميقة في خدمة لبنان، وعدم تقطيع أوصاله مع الخارج. إذ إنّ المخاطر تبقى قائمة في مثل هذه الظروف، أيًّا كانت الضمانات. ويكمن الخوف الأكبر في الأخطاء غير المحسوبة التي من الممكن أن تحصل في أيّ لحظة وتفضي إلى ما لا يحمد عقباه.
تحديات الطيران في زمن الحرب
تراجع العرض من نحو 55 شركة إلى شركة واحدة، أدّى إلى ارتفاع أسعار التذاكر، و"هذا أمر طبيعي تبعًا لآلية عمل السوق"، بحسب عبود. "يضاف إليها ارتفاع التكلفة التشغيلية نتيجة تشغيل "الميدل إست" نصف طائراتها بمعدّل 25 رحلة في اليوم. أغلبيتها تعود من الخارج غير ممتلئة، وارتفاع تكلفة التأمين نتيجة الحرب وازدياد المخاطر". ونتيجة هذه الأسباب، لاحظ المسافرون في الفترة الماضية ارتفاع الأسعار، الذي سيعود إلى معدّلاته السابقة مع عودة شركات الطيران إلى العمل في لبنان. وقد بدأت ملامح العودة تتجلّى في استئناف شركات الطيران الفرنسية، والقطرية، والأردنية، والمصرية، والتركية، والإماراتية رحلاتها إلى لبنان هذا الشهر. على أن تتبعها بقية الشركات مطلع العام المقبل إذا ما استمرت الهدنة ووقف إطلاق النار. فالشركات العالمية وضعت طائراتها على خطوط جديدة لتوقّعها إطالة مدة الحرب في لبنان. وليس من السهل إعادتها فورًا إلى خط بيروت. هذا طبعًا عدا أنّ الربحية من خط بيروت في فصل الشتاء تكون منخفضة. فتفضل الشركات تأجيل العودة. في حين أنّ هناك شركات دولية لا يمكنها أن تبقى بعيدة عن لبنان نتيجة مواقف دولها السياسية الداعمة له مثل "آير فرانس" وغيرها.
الحاجة إلى شركات وطنية
تفاني شركة الميدل إيست في خدمة لبنان، يؤكّد عمق التزام الشركات الوطنية تجاه البلاد في وقت تحجم بقية الأطراف الخارجية. وهذا ما يُبرز الأهمية الإستراتيجية للسماح لشركات طيران وطنية أخرى بتقديم خدماتها جنبًا إلى جنب مع شركة طيران الشرق الأوسط، إذا ما رأى المستثمرون جدوى من المشروع حاليًا، أو في المستقبل القريب، أو البعيد. وتسمح هذه الخطوة بتعزيز الأمن الوطني من خلال تخفيف الضغط على الشركة، كما تضمن استمرار حركة الطيران في ظلّ الأزمات وفي حالات الطوارئ. أو مواجهة الميدل إيست أيّة صعوبات. وهي أيضًا تسمح بتعزيز الاستقلالية والسيادة الوطنية عبر تقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية التي هجرت لبنان، بالإضافة إلى ضمان استمرار الحركة الجوية اللبنانية من دون تأثّر بالمتغيرات الخارجية.
فرغم سريان وقف إطلاق النار مدّدت وكالة سلامة الطيران الأوروبية توصياتها لشركات النقل بتفادي التحليق في أجواء لبنان. وتستمر التوصيات غير الملزمة حتّى 31 كانون الثاني، وتعود صلاحية اتخاذ القرار النهائي لسلطة الطيران المدني الوطنية في كلّ من دول الاتحاد. وقد اعتبرت الوكالة أنّ "الدولة في لبنان لم تثبت قدرتها على الاستجابة للمخاطر في المجال الجوي من خلال تنفيذ نهج فعال واستباقي لخفض التصعيد".
من الممكن الاستنتاج أنّه لو كان هناك إمكان للاستثمار في النقل الجوي المحلّي لبات من المحتمل أن يصبح عدد الرحلات أكبر، والأسعار أقلّ والخدمة متنوعة أكثر. ولكن هذا الأمر مؤجل، أقلّه إلى مطلع العام 2026، إذ مدد مجلس الوزراء في أيلول الفائت للمرة الثالثة على التوالي، القرار المتخذ منذ العام 1958 بمنع الترخيص لأيّ شركة طيران مدني محلّية جديدة.