في غياب أي لفتة رسميَّة أو ثقافيَّة، أحيت "فيلوكاليَّا"، جمعيَّة ومعهدًا، ذكرى غياب الشَّاعر سعيد عقل، باحتفاليَّة في مركزها، في عينطورة كسروان، تحت عنوان "لبنان حلم سعيد عقل". استهلالًا تحدثت رئيسة الجمعيَّة والمعهد الأخت مارانا سعد، منوِّهة بتأثير المحتفى به في أجيال وأجيال، ثمَّ الشَّاعر هنري زغيب الذي أدار ثلاث ندوات، مستعينًا دومًا بقصائد متنوِّعة من دواوين الرَّاحل.
النَّدوة الأولى تحت عنوان "لبنان سعيد عقل"، ضمتني والأديب الدكتور سهيل مطر الذي "تقمَّص" دور السَّفير الرَّاحل فؤاد التُّرك بأن يتناول سعيد عقل انطلاقًا من شعره، والنَّدوة الثَّانية تحت عنوان "نايات لإيل" ضمَّت الآباء يوحنا جحا وجوزف دكَّاش وفريد صعب الذين شرح كلٌّ منهم قصيدةً – صلاةً للغائب الكبير. أمَّا النَّدوة الثَّالثة، تحت عنوان "هكذا يراه لبنان الجديد"، فضمَّت أستاذة الأدب العربي باميلا شربل عن سعيد عقل والتَّعليم، والمحامي جان بيار خليفة عن الاقتصاد السِّياسيِّ عنده والمحامية جنى سلُّوم عن فكره السِّياسيِّ.
واختُتمت الاحتفاليَّة التي كان يجب أن تضمَّ "حارسة الهيكل" الآنسة ماري روز أميدي، وقد رافقت الغائب الكبير 40 سنة لولا وعكة صحيَّة ألمَّت بها، بأمسية موسيقيَّة قدَّمت خلالها خرِّيجة "فيلوكاليا" السُّوبرانو هيفا يغيايان قصائدَ لحَّنها المحامي إياد كنعان من ديوان سعيد عقل "قصائد من دفترها"، بمرافقة السَّيِّدة زينة العلم أبي راشد على البيانو.
أما كلمتي في المناسبة، فتناولت سعيد عقل، من خلال ثلاثة ثواليث (جمع ثالوث) استخلصتها ممَّن خطَّ "لبنان إن حكى" بالعقل والقلب قبل القلم، لأقرأَ لبنانه، أنا المنتمي إليه والمفاخر بأنَّني كنت وما زلت وسأبقى، ما حييت، أحدَ المناضلين من أجله.
أولًا - ثالوث لبنان القصيدة:
من مِلحمة "قدموس" الشِّعريَّة، إلى قصائد المنابر التي صدح بها صوته، فأعلى المِنبر والمناسبة، ليجمعَها في ديوانيه "كما الأعمدة" و"نحت في الضَّوء"؛ إلى قصائده في لبنان الذي أحبَّ، وراحت مَن سمَّاها "سفيرتَنا إلى النُّجوم"، فيروز الرَّحبانيَّين، تضيف بصوتها إلى روعةِ شعره روعةً...كلُّ بيت من قصائده تاريخ ومدرسة وطريق حياة... ما خلا ثلاثةَ أبيات، زد عليها أنَّه بها اختصر تاريخ لبنان وشعبه.
البيت الأول هو آخر ما كتب بينها، بالتَّرتيب الزَّمنيِّ، لكنَّه يصلُح مقدِّمة لآلاف السَّنوات من الحضارة، على هذه الأرض، بعطاءاتها السِّتَّة للعالم. حدَّد في هذا البيت، وهو من اثنتي عشرة كلمة فقط، تاريخ لبنان بأبعاده الأسطوريَّة والوجدانيَّة والاجتماعيَّة والسلوكيَّة والإيمانيَّة والبطوليَّة، وكذلك سِمات أهله التي تمرَّت بتلك الأبعاد اللُّبنانيَّة التَّاريخيَّة.
قال من حذَّر أنْ "لبنانُ منقسمٌ؟ لبنانُ مندحر"... قال في رثاء الشَّاعر شفيق المعلوف، في مهرجان أقيم في زحلة عام 1977:
... وَقَالَ مِنْ خَطَرٍ نَمْضِي إِلَى خَطَرٍ
مَا هَمَّ... نَحْنُ خُلِقْنَا بَيْتُنَا الْخَطَرُ.
أمَّا البيت الثَّاني فيصف طبيعةَ لبنان وأهلِه، زمن السَّلام؛ الطَّبيعةَ المسالمةَ المضيافةَ المحبَّة، الفاتحةَ يديها للعطاء، المشرِعَةَ قلبها للاحتضان، فلا تجتاحُ أو تحتلُّ، ولا مرَّةً فرَّقت بين أهل الأرض، عرقًا أو دينًا أو لونًا أو بلدًا... وما ارتضت لهم إلَّا الخير، ولا عادت جارًا قريبًا أو بعيدًا، ما خلا ذاك العدوّ.
قال من ابتهل أنْ "أَعْطِنَا رَبِّ أَعْطِنَا أَنْ نَرَاكَ"، على لسانِ "أوروب" في مسرحيَّته الشِّعرية "قُدْمُوس" الصَّادرة عام 1937:
لَا تَقُلْ أُمَّتِي وَتَجْتَاحَ دُنْيَا
نَحْنُ جَارٌ لِلْعَالَمِينَ وَأَهْلُ.
أمَّا البيت الثَّالث فلزمن الحرب والمخاطر، يُشهَرُ سيفًا في وجه طامعينَ محتلِّينَ غزاة. هو من قصيدةٍ قد تكونُ أجملَ ما قيل في لبنان الصَّخرة، وتألمسَتْ جمالًا بصوت فيروز، وتذهَّبَتْ أناقةً وموسقةً بأناملِ عاصي ومنصور رحباني...
آآآه كم أكبَرَ شاعر "كما الأعمدة" الصادر عام 1974، حيث نشرت القصيدة... الذين "زنودُهم، إن تقلَّ الأرضُ أوطان". ومن هم؟ هم أهله، وهو منهم بفكره وصوته وقلمه وحضوره. أهلُه الذين تركوا لُعبَ الصِّغار للصِّغار، فجعلوا الموت لعبتَهم.
قال من بنى "أَنَّى يَشَأْ لُبْنَانَا":
أَهْلِي وَيَغْلُونَ... يَغْدُو الْمَوْتُ لُعْبَتَهُمْ
إِذَا تَطَلَّعَ صَوْبَ السَّفْحِ عُدْوَانُ.
ثانيًا - ثالوث لبنانَ البداياتِ الثَّلاث:
بمتابعتي الحاضرَ الكبيرَ بيننا، الأستاذ سعيد عقل، مذ وعيْت بالحياة، ومذ قابلته أوَّل مرَّة في منزلي الوالديِّ، وكنت في العاشرة من عمري، إلى لقاءاتي الكثيرة اللَّاحقة به، خصوصًا حين ترسَّلت للصَّحافة والقلم، إلى مطاردتي إيَّاه حيث حلَّ محاضرًا أو ضيفًا، إلى اقتنائي كتبَه جميعًا، إلى احتفاظي بالكثير الكثير من محاضراته ومقالاته، إلى زياراتي لمنزله في عين الرِّمَّانة، ومن ثمَّ في القرنة الحمراء، إلى مقابلاتي التِّلفزيونيَّة معه، إلى نقاشاتي وإيَّاه خارجَ أيِّ تسجيلٍ أو تدوين...
بمتابعتي هذه، وجدتُني أخرجُ بخلاصات عن لبنان البداياتِ الثَّلاث.
هل ندرك، جميعًا، أنَّ أوَّل زهرةٍ لنبتة - والزَّهرة عنوانُ الحياة على هذه الأرض - وُجدت في العنبر اللُّبنانيِّ، منذ أكثرَ من 140 مليون سنة، حين انحسرت المياه عن اليابسة للمرَّة الأخيرة.
زهرة الحياة في لبنان ومنه، أي إنَّ لبنانَ، بعد إيل تعالى، هو "واهبُ" الحياة.
وهل ندرك أهمِّيَّة الأبجديَّة وتأثيرَها في العالَمِين وفضلَها على الشُّعوب ورقيِّها وتمدُّنِها وتحضُّرِها؟ بالأبجديَّة استطاع الإنسان أن يسرِّع الزَّمان، ولتسريع الزَّمان في فكر صاحب "الخماسيَّات" شأنٌ كبير... "إنِ الهنيهةُ مرَّت لا تُحيِّيكا" ولكم أن تُكملوا الخماسيَّة. وبالأبجديَّة رتَّب الإنسانُ عقله ونظَّمه، فارتسم المنطق في ذاك العقل، قبل نشوء الفلسفة، وراح يستخدمه في العلم والمعرفة والعمل والمغامرة عبر البحر.
أي إنَّ لبنان، بعد الله تعالى، وقد ميَّز الإنسان بالعقل والإدراك، عن سائر مخلوقاته، هو "واهب" العقل.
وهل ندرك جميعًا، ما معنى أعجوبة السَّيِّد المسيح الأولى في قانا الجليل، في لبنان، لا في أيِّ مكان آخر؟ كم كان يحلو لصاحب "نايات لألله" أن يرويَ تلك الأعجوبة من إنجيل يوحنا، بالطَّريقة السَّعقليَّة... وفحواها أن الله ينزل عند رغبة الإنسان في اجتراح المعجزات (...).
أي إن لبنان، بعد الله تعالى، هو "واهب" الألوهة. وها هو صوت الأستاذ سعيد حاضرٌ في البال والذَّاكرة، وقامتُه وارفةُ الظِّلال، ويدُه "تتملعن" بفخر، وهي تؤشِّر، ليختِم ذاك الشَّرح بالقول عن الإنسان: "بَعَتْلنا ياه إنسان، رِجَّعنالو ياه إله".
ثالثًا - ثالوث الشَّخصيَّة الأُمَّويَّة اللُّبنانيَّة:
على قدْر ما عرَف واضعُ "غد النُّخبة" و"الوثيقة التَّبادعيَّة" لبنانَ، كان يرفض نعتَه بأيِّ نعت. لأنَّ لبنان، في عُرفه، كما الله، لا يُنعتُ إلَّا بذاته...
بلى نعتٌ واحد لاق به، هو اسمٌ صفة: لبنان العظمة.
تبحَّر طويلًا في تاريخ لبنان، ليكتملَ معه ثالوث اليتامى الذين تبنَّاهم: الله والعقل ولبنان (...). فكان أن اشتقَّ الأستاذ المعلِّم، مفردةً تطيحُ أخرى استُخدمت طويلًا. قال بالأُمَّويَّة، نسبة إلى الأمَّة، بدلًا من القوميَّة. فكلمة الأمَّة في قاموس سعيد عقل هي التي تجمع الرِّجال والنِّساء، فيما كلمة القوم تعني الرِّجال فحسب.
فلبنان الأمَّة الذي لا يُنعت إلَّا بذاته حدَّد هوِّيَّته، فكان أوَّلُ ثالوث شخصيَّتِه أُمَّويَّةً لبنانيَّةً، هي طريقُ خلاص لأزْماتنا، متى آمن بها اللُّبنانيُّون جميعًا.
ثاني أضلاع الثَّالوث، لغة لبنان، أي اللُّغة اللُّبنانيَّة، وقد كتب بها، وأصدر فيها رائعته "يارا" ومن ثمَّ "خماسيَّات"، فـ"القدَّاس الحبروي" فـ"عشتريم"، وثمَّة واحد وعشرون كتابًا باللُّغة اللُّبنانيَّة، قيدَ الطَّبع، على أمل أن تنشرها المؤسَّسة التي نشأت على اسم سعيد عقل، تباعًا.
أما ثالث الأضلاع فحرفٌ للُّغة اللُّبنانيَّة، مستوحًى من الأبجديَّة الأمِّ، أي الفينيقيَّة، عمِل الأستاذ سعيد عليه مذ كان ابن خمسة عشر عامًا، أي عام 1927، إلى أن أصدر ديوان "يارا" عام 1961، على اعتبار أنَّ أبجديَّته باتت جاهزة كي ترى النُّور، ليجد فيها من ثمَّ نواقصَ وثُغرًا، تلافاها وحسَّن الحرف حينَ أصدر سلسلة "أجمل كتب العالم"، عام 1968، فاكتملت تلك الأبجديَّة، وأصدر بها "خماسيَّات" عام 1978، وجريدة "لبنان" والكتب الأخرى.
وبذا اتَّضحت معالم الشَّخصيَّة اللُّبنانيَّة والهوِّيَّة، من خلال ثالوث الأُمَّويَّة واللُّغة والحرف.
وبعد، عشرٌ على الغياب، نشتاق سعيد عقل جسدًا ومجلسًا، لكنَّه في العقل والقلب، نتنفَّسه كلَّما أوجعنا جمال.