آلاف الشُّهداء والجرحى والمعوَّقين، دمار هائل، خسائر مادية كبيرة، تهجير، شبه إبادة... خطر متنوِّع تهدَّد لبنان وما زال، لكنَّ أخطر ما فيه أنَّه محاولة لمحو الذَّاكرة الجماعية من خلال تدمير الدَّلائل المادِّيَّة للإرث الثَّقافيِّ، هذا الإرث الذي يقوم عليه علم الآثار، إذ إنَّه يُعنى بالبقايا المادِّيَّة المتروكة... فما الذي بقي بعد جرف القرى، وهذا التَّدمير الوحشيِّ الهائل؟

ويقوم أساس النَّهج الذي تعتمده إسرائيل على صراع تاريخيٍّ دينيٍّ بين منطقتين ومنطقين وحضارتين وشعبين، وخلاصتُه ذات البعد الفلسفيِّ أنَّ إسرائيل تمحو ما عندنا لتسعى هي إلى إعماره، وترسم ذاكرة لنا على مزاجها.

ولنأخذ نماذج طاولتها المحاولات الإسرائيليَّة لتدمير الإرث الثَّقافي: زيتونة دير ميماس، سوق النَّبطيَّة، الأبنية التُّراثيَّة في بنت جبيل، المنشيَّة وأوتيل بالميرا بعلبك، على سبيل المثال، لا الحصر.

صحيح أنَّنا حزنَّا على شهدائنا، وآلمنا سقوط آلاف الجرحى، وأدمعنا على من تهجَّروا وخسروا السَّقف وباب الرِّزق... لكنَّ الصَّحيح والمؤلم أيضًا هو تلك المحاولة الخبيثة لمحو ذاكرتنا.

ولأنَّني أنا ذاكرتي، ولأنَّ ذاكرة كلِّ لبناني ذاكرتي، عبَّرت عن شعوري وغضبي وأملي وعنفواني، فكانت هذه القصيدة:

أَنَا ذِكْرَيَاتِي... وَالْجِرَاحُ عِتَاقُ

وَجَمِيعُنَا لِتُرَابِنَا عُشَّاقُ

نَطْوِي مِنَ الْأَيَّامِ كُلَّ هُنَيْهَةٍ

وَإِلَى الْمَوَاضِي حَسْبُنَا نَشْتَاقُ

فَنَرَى مَعًا غَدَنَا، وَنَحْنُ شُمُوسُهُ،   

أُفُقًا وَمَا اتَّسَعَتْ لَهُ آفَاقُ

لِيَجِيءَ مَنْ يَسْعَى إِلَى مَحْوِ الْأَنَا

وَكَأَنَّنَا بِخَرِيفِهِ أَوْرَاقُ.

أَنَا ذِكْرَيَاتِي، وَالْجَنُوبُ مَشِيئَتِي

أَنَا ذِكْرَيَاتِي، وَالْبِقَاعُ رِفَاقُ

بَيْرُوتُ، ضَاحِيَةٌ، بِذَاكِرَتِي، وَلِي

فِي كُلِّ حيٍّ نَابِضٌ خَفَّاقُ

وَهُنَاكَ أَهْلِي لَا أَنُوءُ بِحِمْلِهِمْ

فَرَحِي بِهِمْ تَسْبِيحَةٌ وَعِنَاقُ

فَالْإِرْثُ دَرْبٌ، سِنْدِيَانَةُ سَاحَةٍ،

مَقْهًى، مَقَامٌ، مَسْجِدٌ، وَزُقَاقُ

تِينٌ وَزَيْتُونٌ، خُشُوعُ كَنِيسَةٍ،

قِيَمٌ، مَآثِرُ، رِفْعَةٌ، إشراقُ

سُوقٌ، قِلَاعٌ، شَاطِئٌ، مَنْشِيَّةٌ،

تَبْغٌ، وَسَهْلٌ خَيْرُهُ الْأَخْلَاقُ...

أَنَا ذِكْرَيَاتِي، وَالْجَبِينُ ذَخِيرَتِي

عَالٍ جَبِينِي وَالْعُلُوُّ مَذَاقُ

عَرَقٌ يُكَابِدُ فَالْحُقُولُ جَنَائِنٌ

قُلْهَا مُعَلَّقَةٌ وَقُلْ أَعْمَاقُ

فَهُنَا السَّمَاءُ مِظَلَّةٌ لِخُيُورِهَا

وَالْأَرْضُ يَسْقِيهَا دَمٌ مِهْرَاقُ.

أَنَا ذِكْرَيَاتِي، لَا تَغُرَّكَ غَيْمَةٌ

سَوْدَاءُ مَرَّتْ فِي الزَّمَانِ، يُسَاقُ

في إِثْرِهَا مَطَرٌ وَعَاصِفَةٌ، وَمَا

لِلرِّيحِ لَوْ مَهْمَا عَتَتْ إِطْبَاقُ.

مَنْ شَاءَ يَمْحُو لَيْتَهُ يَدْرِي أَنِ

الْوَهْمُ الْمُكَابِرُ، فِي الْخَيَالِ، مُعَاقُ

وَالْحُلْمُ يَبْقَى فِي الْخَيَالِ حَقِيقَةً

وَلِكُلِّ ذِكْرَى كُلُّنَا عُشَّاقُ.