أيًّا تكن تفاصيل حياة القديسة بربارة في ظلّ شحّ المعلومات التاريخية وتضاربها، والتي يرجّح أنّها عاشت في القرن الثالث للميلاد، وأيًّا يكن مسقط رأسها أكان بعلبك اللبنانية (مدينة هليوبوليس يومذاك، أي مدينة الشمس باليونانية)، أو إزميد التركية (مدينة نيقوميديا يومذاك)، فإنّ التقاليد والأهازيج المتوارثة من جيل إلى جيل كـ"هاشلة بربارة مع بنات الحارة"، والتي يحملها الاحتفال بعيدها في 4 كانون الأول، أخذت، مع الوقت، بعدًا اجتماعيًا لا يرتبط بالجوهر الروحي للعيد.

روحيًا، الرواية تتحدّث عن قيام القديسة بربارة بتمويه شكلها خلال محاولة هروبها من بطش والدها الوثني والفاحش الثراء الذي اضطهدها لاعتناقها المسيحية ونجح في القبض عليها وقطع رأسها بعدما رفضت التخلّي عن إيمانها بالمسيح. أما اجتماعيًا، فأضحى العيد الذي يترافق مع الكثير من المرح يحمل في طيّاته مفهوم الهروب من الواقع القائم عبر لبس الأقنعة والتلطّي خلفها إنكارًا للحقائق.

لبنان يعيش "بربارة" مستدامة على مدار الـ365 يومًا من السنة، ويعمد الى ابتكار الأقنعة في محاولة للهروب إلى الأمام من الحقائق المتراكمة. على سبيل المثال، منذ انطلاق مرحلة "الطائف" مطلع التسعينات، لبسنا قناع "لا غالب ولا مغلوب" لإخفاء "الصيف والشتاء" الذي مورس بعد خسارة المسيحيين للحرب عوض المصارحة والمصالحة وتنقية الذاكرة.

يومذاك، وصل المسيحيون إلى طاولة التفاوض في "الطائف" منهكين جرّاء حروب التحرير والإلغاء التي شرذمتهم وأطاحت المنطقة الخارجة عن النفوذ السوري والخطوط الحمر في 13 تشرين الأول 1990. خسارة تكرّست مفاعيلها مع الانقلاب على "الطائف" ونفي قادتهم وسجنهم واضطهاد جماهير أحزابهم، وتفصيل انتخابات نيابية على مقاس المنتصر عبر رفع المقاعد من 108 إلى 128 خلافًا لما اتفق عليه في "الطائف" وتقسيم الدوائر، ومرسوم تجنيس استفاد منه كثيرون من غير المستحقّين وتسبّب بخلل ديمغرافي بين الطوائف وكرّت السبحة...

منذ ذاك التاريخ حتّى اليوم، أقنعة كثيرة لبستها الأطراف السياسية والمكوّنات المجتمعية. فكان التكاذب و"تبويس اللحى" "وربط النزاع" سادة الموقف والطاغية على هذه الحقبة جراء عجز بعضهم أو خوف بعضهم الآخر أو حتّى الحسابات الضيّقة. راحت هذه الأقنعة تخفي خلفها مروحة من الهواجس والمخاوف والعقد والموروثات التاريخية التي ارتبطت بـ"لعبة العدد" و"فائض القوة" و"عنجهية الغالب" والإطاحة المتواصلة بالدستور والقوانين.

أحدثُ هذه الأقنعة هو قناع "الانتصار" الذي وضعه "الحزب" منذ الساعة الرابعة من فجر 27/11/2024 لحظة بدء تنفيذ الاتفاق على وقف إطلاق النار بين لبنان (عمليًا "الحزب" لأنّه هو الذي فتح النار) وإسرائيل بناء على النصّ الأميركي – الفرنسي بهدف إخفاء الفاتورة المكلفة التي تكبّدها كلّ لبنان مقابل فشل "الحزب" في تحقيق أهدافه. بعد ذلك، أطلّ الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم في 30/11/2024 معلنًا عن "انتصار كبير في معركة "أولي البأس" يفوق النصر الذي تحقّق عام 2006″ ومؤكّدًا أنّ "المقاومة ستبقى مستمرّة".

أيّ انتصار هذا بعد تراجع "الحزب" عن رفع لواء "وحدة الساحات" وربط مصير لبنان بمصير غزة الذي على أساسه فتح جبهة الجنوب في 8 تشرين أول 2023، وبناء عليه رفض طوال الأشهر الماضية أيّ بحث بوقف إطلاق النار إذا لم يتزامن مع وقف شبيه في غزة؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" خالف مشيئة أمينه العام الراحل السيد نصرالله في إطلالته في 19/9/2024 الأولى عقب "غزوة البيتجر" الإسرائيلية والأخيرة قبل الاغتيال حين قال: "هناك بعض الدول الغربية جاهزة لتعمل لنا مخرجًا، أن نعمل تسوية معينة، في مجلس الأمن ونقول تطبيق 1701 ونُوقف الحرب، وتُترك غزّة وأهل غزّة ومقاومة غزّة وأهل الضفّة وفلسطين وكلّ المعركة لمصيرهم، وبالتالي كلّ ما قدّمناه من تضحيات ومن شهداء ومن جهود ومن مواجهات قاسية ودامية خلال عام يكون قد ذهب سُدى، ونحن لا يمكن أن نفعل ذلك"؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" خالف مشيئة أمينه العام الراحل السيد نصرالله القائل "إن تركنا غزّة وأهل غزّة كلّ ما قدّمناه من تضحيات ومن شهداء ومن جهود ومن مواجهات قاسية ودامية خلال عام يكون قد ذهب سُدى، ونحن لا يمكن أن نفعل ذلك"؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" ارتضى الانسحاب إلى ما بعد الليطاني، وخالف أيضًا رفض نصرالله الوساطات الدولية على هذه الشاكلة، متبنّيًا في إطلالته في يوم الجريح في 13/2/2024 ما نُقل عن الرئيس بري من قوله للوسطاء إنّ "نقل النهر إلى الحدود سيكون أسهل من انسحاب "الحزب" خلفه"؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" رضي باتفاق أبعد من الـ "Plus 1701" يوازي بمضامينه مفاعيل "الفصل السابع" بعدما هدر أشهرًا من التعنّت ورفض تطبيق القرار 1701 بكامل مندرجاته وخوّن وفريق "محور الممانعة" "القوات اللبنانية" لمطالبتها بتنفيذه في 27/4/2024 خلال مؤتمر "معراب 1"؟

أيّ انتصار هذا والاتفاق الذي فاوض عليه الرئيس نبيه بريً ووافق عليه "الحزب" والتزمه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزراء حكومته بمن فيهم وزراء "الحزب"، تحدّث بوضوح:

* في مقدمته عن التزام لبنان تطبيقًا كاملًا للقرار 1701 والقرارات التي سبقته، بما فيها "نزع سلاح جميع المجموعات المسلّحة في لبنان"، بعدما كان "الحزب" وبري يصرّان على تجويف هذا القرار من مضمونه الذي تحدث عن تطبيق القرارين 1559 و1680؟

* في مقدمته، عن أنّ "القوى الوحيدة المخوّلة حمل السلاح في لبنان هي الجيش اللبناني، وقوى الأمن الداخلي، ومديرية الأمن العام، والمديرية العامة لأمن الدولة، الجمارك اللبنانية، وشرطة البلدية" ولم يأتِ على ذكر أيّ دور له أو ثلاثية "جيش – شعب -مقاومة"، وهذا يعني أنّه غير مخوّل حمل السلاح ليس في جنوب الليطاني فحسب، بل كذلك في لبنان؟

* في المادة 5، عن أنّ "الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية، هي الجهات المسلّحة الوحيدة المسموح لها بحمل السلاح أو تشغيل القوات والبنى التحتية العسكرية والأمنية في جنوب لبنان"، أي في كلّ الجنوب وليس خلف الليطاني فحسب؟

* في المادة 6 عن "الإشراف على بيع الأسلحة أو توريدها أو إنتاجها أو المواد ذات الصلة بالأسلحة في لبنان من قبل الحكومة اللبنانية بما يتوافق مع القرار 1701 والقرارات السابقة له، بهدف منع إعادة تشكيل وتسليح المجموعات المسلّحة غير الحكومية"، أي قطع الطريق على إعادة بناء ترسانته وقدراته على مساحة الـ10452 كلم2؟

* في المادة 7 عن:

أ- مراقبة ومنع دخول أسلحة مصرّح لها، وأي مواد ذات صلة إلى جميع الأراضي اللبنانية، بما فيها الآتية عبر المعابر الحدودية كافة.

ب- بدءًا من جنوب نهر الليطاني، تفكيك كلّ المنشآت المرتبطة بتصنيع الأسلحة والعتاد ذات الصلة ومنع استحداث منشآت كهذه في المستقبل.

ج- بدءًا من جنوب نهر الليطاني، تفكيك جميع البنى التحتية والمواقع العسكرية ومصادرة كلّ الأسلحة غير المصرّح لها بحسب هذه الالتزامات.

ومتى كان الأمر بدءًا من جنوب الليطاني، هل بإمكان أحد أن يقول لنا انتهاءً بأيّ نقطة جغرافية؟

* في المادة 9، عن أنّ اللجنة الجديدة والمطوّرة، التي تستضيفها قوات الأمم المتحدة والتي "ستقوم بالإشراف والتدقيق والمساعدة على ضمان تنفيذ هذه الالتزامات" تترأسها الولايات المتحدة عبر أحد جنرالاتها، فيما "الحزب" لطالما وصفها بـ"الشيطان الأكبر" وأمينه العام الجديد كان أخبرنا في 20/11/2024: "نحن نواجه وحوشًا بشريّة إسرائيليّة تدعمها وحوش بشريّة كبرى أميركيّة"؟

* في المادة 11، عن "نشر لبنان الجيش وقوات الأمن الرسمية على طول جميع الحدود ونقاط العبور الشرعية وغير الشرعية البرية والجوية والبحرية"، أليس هذا تطبيقًا للقرار 1559؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" يضع رأسه في الرمال كالنعامة عبر القول إن لا علاقة للبنان بالاتفاق الجانبي بين واشنطن وتل ابيب، والذي يضمن للأخيرة حقّ الاستمرار في اختراق الأجواء اللبنانية عبر طائراتها الحربية ومسيّراتها؟ وكأنّ مفاعيل هذا الاتفاق لا تقع على لبنان وسيادته! كما يعطيها الحقّ بتوجيه ضربات في لبنان متى شعرت بأيّ خطر يهدّدها، ولم تقم "اليونيفيل" و"الجيش" وحتّى لجنة المراقبة بتبديده؟

أيّ انتصار هذا و"الحزب" يضع رأسه في الرمال كالنعامة عبر القول إن لا علاقة للبنان بالاتفاق الجانبي بين واشنطن وتل ابيب، والذي يضمن للأخيرة حقّ الاستمرار في اختراق الأجواء اللبنانية عبر طائراتها الحربية ومسيّراتها؟

أيّ انتصار هذا الذي يستبق انقضاء مهلة الـ60 يومًا التي يفرضها الاتفاق فترة اختبار،إذ هناك عشرات القرى التي لا يزال الإسرائيلي موجودًا فيها ويمنع أهلها من العودة ويفرض حظر تجوال ليلًا؟

أيّ انتصار هذا الذي سارع "الحزب" الى إعلانه فيما إسرائيل تواصل خروقها وغاراتها وإجرامها في جنوب الليطاني وشماله؟

صحيح أنّ وقف إطلاق النار هو نصر لإرادة اللبنانيين في الخروج من مستنقع الدماء والدمار، ومن المؤكد أن ثمنه كان سيكون أقلّ بكثير لو لم يكابر "الحزب" ويرفض المساعي والوساطات لتطبيق القرار 1701 قبل التفلّت الجنوني الإسرائيلي وانطلاق المرحلة الثانية من الحرب الأوسع والأشمل في 23/9/2024. لكنّ الأكيد، وفق كل ما ورد أعلاه، أنّه ليس بانتصار لـ"الحزب" مهما حاول الترويج أنّ نتنياهو فشل في تحقيق أهدافه. الادّعاء أنّ بقاء "الحزب" انتصار - ولو على حساب دمار لبنان وإبادة شعبه - تجميل للانكسار، وبالتأكيد لن يجدي نفعًا تلطّيه خلف "قناع الانتصار"...