للبنانيين النازحين حقٌّ مقدّس في العودة إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم ولو فوق الركام، ويحق لبعضهم رفع رايات الانتصار فوق الدمار كتعويض عاطفي عن حلم انكسر أو وعد انحسر، على الأقل، في غياب أي تعويض آخر حتى الآن.

لكنّ الصحوة من هول المأساة، برغم صعوبة استيعابها، ستفتح الأبصار والبصائر على المرحلة التالية بمستوياتها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تنفيذاً للقول بأننا طوينا مساراً عسكرياً مغامراً وبدأنا مساراً جديداً يختلف جذرياً عمّا سبقه.

ولا ريب في أن لبنان يسبق سواه من ساحات الأزمات والحروب في المنطقة إلى "يومه التالي"، قبل فلسطين وسوريا والعراق واليمن والسودان، ويصلح لتقديم نموذج عملي للتسويات والحلول، بعد الأخذ في الاعتبار ظروف وخصوصيات كل دولة ومنطقة.

ففي هذا اليوم اللبناني التالي لا يمكن تصوّر بقاء ازدواجية السلاح بعد سقوط العناوين الثلاثة التي سادت أخيراً، وهي "الربط مع غزة" و"وحدة الساحات" و ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة".

كما لا يمكن تصوّر ارتداد سلاح "الحزب" إلى الداخل بعد ضبطه وتطويقه في مواجهة إسرائيل عملاً بالآليات القاسية التي تضمّنها نص اتفاق وقف الحرب والنص الثنائي الموازي بين تل أبيب وواشنطن والذي يحفظ حق إسرائيل في الرد على أي خلل عسكري أو أمني.

وهذا الواقع الجديد يتصل بالموقف الإيراني المنكفىء عن التصعيد خصوصاً مع اقتراب تسلّم دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، ومع الرقابة المتشددة على محاولات طهران إعادة تسليح "حزب الله" برّاً عبر سوريا والعراق، وجوّاً وبحراً عبر المطار والمرفأ.

ولا يخفى أن أكثر من طرف ودولة باتت معنيّة بهذا الحظر من بينها سوريا وروسيا والعراق ولبنان نفسه، فضلاً عن شرط إسرائيل المذكور في اتفاقها مع الولايات المتحدة.

وقد بدأ منذ الآن طرح السؤال الساخن:

ما هو انعكاس الوضعية الجديدة ل"الحزب" على السياق الداخلي اللبناني؟

الواضح أن هناك علاقة وثيقة بين سلاحه وتأثيره السياسي، ولا يمكن الفصل بينهما، وقد انعكس جبروته العسكري السابق على الدولة برمّتها، ليس فقط بمصادرته قرار الحرب، بل في طغيانه على القرار السياسي الحكومي والنيابي، وعلى أداء سائر الإدارات والمؤسسات بما فيها القضائية والأمنيّة.

ولا شك في أن هذَين الجبروت والطغيان دخلا بعد صمت المَدافع حالة مختلفة أقل تأثيراً، وسيكونان أمام اختبار أوّل هو انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعدما وعد الأمين العام الشيخ نعيم قاسم بالمساهمة في انتخابه "وفقاً للدستور" (وهو تعبير جديد غاب لأكثر من سنتين على الفراغ الرئاسي)، وتحت اتفاق الطائف، وبدء مرحلة تعاون مع سائر القوى السياسية.

وكان الرئيس نبيه بري قد سبقه بوعد آخر هو الدعوة إلى جلسة الانتخاب فور وقف إطلاق النار، وتحدّث عن ضرورة إجراء هذا الاستحقاق في كلمته أمس التي خصصها لمرحلة الوفاق ما بعد الحرب.

وأبرز المتغيّرات في هذا المجال إسقاط شرط الحوار الرسمي المسبق والتخلّي عن أحادية مرشح "الثنائي" للرئاسة.

أمّا مسألة إعادة الإعمار فستكون أكثر تعقيداً من سابقتها بعد "حرب تمّوز" 2006، ليس فقط لأن الدمار أشد وأبلغ، بل لشروط الجهات المموّلة، وتحديداً الخليجية والدولية، فلا يكون هذا التمويل تأسيساً لحرب جديدة ودمار متكرر وتغذية لترسانات السلاح.

وقد تفي إيران بوعدها في إعادة الإعمار، لكنّها محكومة بعائقَين: رفع العقوبات عن أموالها وهي مسألة غير سهلة مع رئاسة ترامب، والخسارة التي مُنيت بها وظيفة ذراعها الأولى في جنوب لبنان بحيث تُعيد حسابها في استثمار مغامرة جديدة.

إنه "يومٌ تالٍ" لا بدّ من أن يستعيد فيه لبنان مكوّناً تأسيسياً من مكوّناته يتساوى بالحق والكرامة مع سائر الشركاء.

فلعلّ هذَين الحق والكرامة يبلسمان جروح الحرب ويخفّفان آلام المأساة ويساهمان في بناء دولة سليمة وحديثة.