إن كان من السّهل تقييم الخسائر المادّية؛ وقد قيّمت بين "6.7 و8.1 مليار دولار"، بحسب البنك الدولي، فإنّه من الصعوبة بمكان تحديد حجم الخسارة في بقية العوامل المعنوية.

يقودنا إطلاق تعريف اقتصادي على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 إلى مصطلح "مسرّع الانهيار". فعلى غرار "المسرّع الاقتصادي" الذي يفترض أنّ الزيادة أو النقصان في النّاتج القومي تؤدّي بالضرورة إلى تغيير مضاعف، بشكل سلبي أو إيجابي، في الطلب على الاستثمار، فإنّ الانفجار أدّى إلى انهيار مضاعف في بنية الاقتصاد التّحتيّة، والمجتمع الفوقية، والقضاء، والثّقة بأضعاف مضاعفة.

إن كان من السّهل تقييم الخسائر المادّية؛ وقد قيّمت بين "6.7 و8.1 مليار دولار"، بحسب البنك الدولي، فإنّه من الصعوبة بمكان تحديد حجم الخسارة في بقية العوامل المعنوية. ويتكشّف بعد مررو ثلاثة أعوام أنّ كلفة مرور الجريمة من دون عقاب، أكبر بما لا يقاس على الاقتصاد. وإذا ما أضيفت على إفلات المتسبّبين بـ"المنهبة" التاريخية لثروات الأفراد على أجيال، المتزامنة مع الانفجار، فإنّ عبارة على "البلد السلام" خير معبّر عمّا ينتظرنا في المستقبل من انحلال. فقد أدّت هذه المشاكل المجمّعة إلى ترسيخ الإحباط، وانعدام الثقة في قدرة الدّولة على التعامل مع الأزمات وتقديمها المساعدات.

"إنفجار في خضمّ الأزمات"

يشكّل التّحقيق الذي أجرته "منظّمة العمل الدولية"، تحت عنوان "انفجار في خضمّ الازمات – تأثير انفجار ميناء بيروت على المؤسسات التجارية في المدينة"، خير معبّر عن حجم الخسائر. فهو لم يتطرّق إلى إحصاء أعداد المؤسسات المتهدّمة، وتقييم خسائرها فحسب. بل ذهب أبعد ذلك في مقارنة المؤسسات التي استعادت نشاطها من تلك التي أقفلت كلّيّاً. وكيفية انعكاس الواقع على مداخيلها وأعداد المصروفين، وكيفية انعكاس البطالة على قدرتهم الشرائية. ومن النتائج المثيرة للاهتمام في البحث الذي اجري على عينة من 1664 مؤسسة تعمل ضمن دائرة قطرها 10 كيلومترات من موقع الانفجار يتبيّن التالي:

- تضرّرت 86 في المئة من المؤسسات، وتعرّض 35 في المئة منها إلى دمار كامل.

- تمّ تجديد أو إعادة بناء حوالي نصف المؤسسات المتضرّرة منذ الانفجار.

- لم يتمّ إعادة إصلاح 14 في المئة من المؤسسات المتضرّرة على الاطلاق.

- قامت ثلث المؤسسات التي يعمل بها موظفون مدفوعي الأجر بتسريح شخص واحد أو أكثر، وبلغ متوسّط عدد العمال المسرّحين ثلاثة أشخاص.

- خفّضت المؤسسات أجور العمّال بمقدار الثلث، مما ساهم في المزيد من انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين الذين تعتمد عليهم أعمال المؤسسات في نهاية المطاف.

الأضرار المادّية

هذه النتائج هي عينة من أقلّ من 2000 مؤسسة. لكن في الواقع أدّى الانفجار إلى تضرّر حوالي 20 ألف مؤسسة بين صغيرة، متوسّطة وكبيرة، وأكثر من 60 ألف وحدة سكنية، من بينها 968 مبنى تراثياً تعود إلى القرن التاسع عشر.

وإلى جانب المنازل والمؤسسات التجارية والمباني التراثية، لحقت بالبنى التحتيّة المجاورة من مجاري وطرقات وكهرباء أضراراً بالغة. وها هو مبنى مؤسسة كهرباء لبنان ما زال شاهداً لتاريخه على حجم الدمار. حيث تدمّر المبنى كلياً، وتمّ هجره مع مركز التحكّم الآلي.

ماذا تحقّق

لا يتّسع المقال لتعداد انعكاس الخسائر في الأرواح والأصول المادّيّة والتداعيات غير المباشرة لمثل هذا الانفجار على الوضع الاقتصادي، ولكنّه يكفي للقول أنّ الجراح لم تلملم بعد مضي ثلاث سنوات، والتداعيات لا تزال تتفاقم. فعدا طبعاً عن توقّف مسار التّحقيق بالانفجار، وعدم تحقيق العدالة لذوي الضحايا، فإنّ المعالجات الاقتصادية ما زالت قاصرة أيضاً. يأتي في مقدّمتها عدم التعويض على المتضرّرين من شركات التأمين بقيمة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات. فشركات التّأمين المحلّيّة عوّضت على بعض المتضرّرين، وتحديداً من أصحاب السيّارات، إلّا أنّ التعويضات الكبيرة على الأصول والممتلكات ما زالت تنتظر نتائج التحقيق. فشركات إعادة التّأمين في الخارج لن تدفع دولاراً قبل حسم ما إذا كان الانفجار حادث أو ناتج عن عمل تخريبي أو إرهابي. وطالما لا تحقيق فإنّ أموال الكثير من الشركات والمؤسسات ما زالت معلّقة لغاية اللحظة.

الانعكاس الثّاني يتمثّل على الأبنية التراثية التي أمعن الانفجار في تعرّضها للانهيار الكلّي. وعلى الرّغم من صدور القانون رقم 194 في تشرين الأوّل 2020 الذي ينصّ على حماية الأبنية التراثية، وتقييم أضرارها، وتدعيمها، ومنع تهديمها أو التصرّف بها، فإنّ الجزء الأكبر منها ما زال في حالة يرثى لها. كما أنّ مهلة العامين التي أعطيت بالقانون لمنع القيام بأيّ عمل تصرّف نقل للملكية يتناول العقارات أو الأبنية أو الأقسام المفرزة أو الحصص الشّائعة في العقارات الواقعة في المناطق المتضرّرة، وتجميد جميع وكالات البيع أو الوعد بالبيع أو عقود البيع الممسوحة التي تتناول العقارات المذكورة... قد انقضت. وبالتّالي عاد الخطر ليحوم حول هذه الأبنية لتهديمها وإنشاء ناطحات سحاب مكانها. ما يقضي على التراث الحضاري والعمراني لمدينة بيروت.

الدولة الغائب الأكبر

أمام الكمّ الهائل من الأضرار، ظلّت مساعدة الدولة محدودة جداً. ولم تتجاوز التقديمات الحكومية 10 في المئة من مجمل ما قدّمته الجهات الدّوليّة ومؤسسات المجتمع المدني. وعلى الرّغم ممّا شاب الجهّة الأخيرة من شبهات فساد، وإنشاء منظّمات وهميّة، وسرقة للمساعدات فإنّ دورها ظلّ محوريّاً في تقديم يد العون للمتضرّرين.

في ظلّ انهيار اقتصادي صُنّف الأسوأ في العالم، وبالتزامن مع تفشّي وباء كورونا الذي "ركّع" اقتصاديات الدّول العملاقة، عصف انفجار المرفأ بـ "حطام" الاقتصاد اللبناني، فكان "مسرّع" الانهيار، والقاضي على ما تبقّى من آمال.