بكثير من الحزم أكّد النّائب الاول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري أنّه "مهما كانت الأسباب التي تدفع بالحكومة اللبنانية لأن تطلب أموالاً من المصرف المركزي، فهي أسباب غير مبرّرة على الاطلاق، ويجب أن يتوقّف هذا الاستنزاف نهائياً".

ثلاثون عاماً من السياسات النقدية الجدليّة "طواها" لبنان مع خروج رياض سلامة من سدّة حاكمية المصرف المركزي، من دون أن "يمزّقها". فعلى الرّغم من أنّ "أصل الشرور" كان تمويل عجز الدّولة بانتظار تحقيق الإصلاحات، فإنّ السلطة ستنال مجدداً المزيد من "الوقت المستقطع" لتنفيذ ما عجزت عن تحقيقه خلال عقود مقابل تمويل ضخم ممّا تبقّى من أموال المودعين.

بكثير من الحزم أكّد النّائب الاول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري أنّه "مهما كانت الأسباب التي تدفع بالحكومة اللبنانية لأن تطلب أموالاً من المصرف المركزي، فهي أسباب غير مبرّرة على الاطلاق، ويجب أن يتوقّف هذا الاستنزاف نهائياً". وأعاد منصوري قبل يوم من تسلّمه مهام الحاكمية، وبوجود زملائه الثلاثة من نواب الحاكم، التأكيد على ضرورة إنجاز الحكومة والبرلمان القوانين والإجراءات الإصلاحية في غضون ستّة أشهر. معتبراً أنّه "لا يمكن للمصرف المركزي رسم السياسة النقدية والمالية، ويجب التعاون مع الحكومة والبرلمان. إذ لا يمكننا تغيير الوضع الحالي بمفردنا".

التفاوض على إقراض الحكومة

كلّ ما تقدّم نزل برداً وسروراً على صدور اللبنانيين عامّة، والمودعين خاصّة، إلى أن قطعت حديث منصوري جملة "لكنّ المعضلة تكمن في أنّ وقف التمويل الفوري (للدّولة) سيؤدّي إلى نتائج خطيرة. والحلّ "فترة انتقالية قصيرة، تسمح بتمويل الدّولة بموجب قانون صادر عن المجلس النيابي وتحت رقابته، يكون ضمن سلّة متكاملة تسمح بالبدء بورشة إصلاح حقيقية".

على الفور بدأت المفاوضات لحصول الدولة على 1.2 مليار دولار من احتياطي المركزي (ما تبقّى من توظيفات الزامية) لمدة ستّة أشهر تتعهّد البدء بردّها بعد عام ونصف العام. وبغضّ النظر عن الثّقة بوضع اليد مرة جديدة تحت "بلاطة المنظومة"، وقدرة الدولة الفعلية على ردّ الاموال، الذي كان نائب رئيس الحكومة سعاده الشّامي أوّل المشككين فيها، فإنّ "مثل هذا القانون سيكون عرضة للطّعن والإبطال أمام المجلس الدستوري"، يقول رئيس تجمّع رجال وسيدات الأعمال نيكولا أبو خاطر. "بذريعة أنّ المادة 15 من الدستور نصّت على عدم جواز التعرّض للملكيّة الخاصّة. والأموال التي ستقرض للحكومة هي من التوظيفات الإلزامية التي تعود للمودعين". وعليه فإنّ الحلّ لا يكون بتكرار أخطاء الماضي، إنّما التعلّم منها. وذلك من خلال "التوقّف فوراً عن طباعة الليرات، والعمل على تصغير حجم القطاع العام من خلال تفعيل قانون الشراكة بينه وبين القطاع الخاص"، يضيف أبو خاطر. "حيث تبقى المؤسّسات العامّة ملكاً للدولة، إنّما تحت إدارة وتشغيل القطاع الخاص، الذي يضمن تعزيز كفاءتها وزيادة مواردها وتحسين خدماتها. إذ إنّه من المستحيل على الاقتصاد اللبناني تحمّل عبء قطاع عام يضم حوالي 400 ألف موظّف بين فاعل ومتقاعد. ولاسّيما أنّ هذا القطاع لم يكن منتجاً خلال الأعوام الماضية".

الأموال ستهدر

المشكلة الثانية في إقراض الدولة 1.2 مليار دولار تتمثّل بأنّ هذه الأموال ستكون للتشغيل وليس للاستثمار. ومن دون بروز أيّ "نية" عند السّلطة لإصلاح القطاع العام وحوكمته. وبالتالي ستهدر الأموال من دون أن تولّد أيّ قيمة مضافة للاقتصاد. وذلك على العكس ممّا لو استخدمت هذه الأموال أو جزءاً منها، لبناء مصانع للكهرباء على الغاز من بعد إنشاء الهيئة الناظمة للقطاع وتفعيل الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص على قاعدة PPP (public-private partnership)"، برأي أبو خاطر. "الأمر الذي يخفّض التعرفة على الأفراد والقطاع الخاص من حدود 50 سنتاً للكيلوواط – ساعة، إلى ما بين 15 و20 سنتاً. فتنخفض فاتورة استهلاك المحروقات تلقائياً. ويخفّ العبء الأكبر عن كاهل المواطنين. وتزداد القدرة التنافسية للشركات. ويتشجع رجال الأعمال على الاستثمار وخلق فرص العمل. فتزداد الصادرات ويتراجع العجز في ميزان المدفوعات. وترتفع إيرادات الدّولة وتتحسّن القدرة الشرائية..". كلّ ذلك يحصل في حال تمّ وضع الأموال في مكانها الصحيح والمناسب. فكيف الحال إذا وظّفت الأموال في أكثر مكان منتج حقيقي.

القوانين وحدها غير كافية

إذاً العودة إلى إقراض الدولة الأموال حتّى في ظلّ تشريع بعض القوانين الإصلاحية، لا يعتبر كافياً ما يترافق مع التنفيذ. فالدّولة على سبيل الذكر لا الحصر أصدرت قانون تنظيم قطاع الكهرباء 462 في العام 2002 ولم تضع لغاية اليوم، أي بعد مرور أكثر من عقدين، مراسيمه التطبيقية.. واللائحة تطول من القوانين المشرّعة وغير المطبّقة، وهي تصل بحسب مصدر حقوقي إلى حوالي مئة قانون.

الفرصة الاخيرة

برهنت التجارب السابقة، أقلّه منذ العام 2001، تاريخ عقد أول الاجتماعات الدولية لمدّ لبنان بالقروض.. ولغاية السّاعة، أمرين أساسيين:

- الأول، الاستعصاء على الإصلاح.

- الثاني، عجز الموازنة عن تحقيق فائض، وبالتالي ضمان خدمة الدين.

وممّا زاد "الطين بلّة؛ تخلّف لبنان عن سداد ديونه. فكيف للحكومة أن تحقّق الإصلاحات المطلوبة، وتؤمّن سداد القرض للمودعين في ظلّ هذا الواقع؟

يجيب أبو خاطر بأنّ تحقيق الإصلاحات المطلوبة في ورقة أو خطة نواب الحاكم هي الفرصة الأخيرة لانتشال الاقتصاد من مأزقه، وفي مقدمة هذه الإصلاحات:

- انجاز موازنتي 2023 و2024.

- إقرار الكابيتال كونترول.

- هيكلة المصارف.

- إعادة التوازن المالي.

- تحرير سعر الصّرف وتوحيده.

- تغيير آليات العمل على منصّة صيرفة.

أبو خاطر استعمل المثل الفرنسي Celui qui donne ordonne أو "من يعطي يأمر"، ليدلّل على إمكانية فرض هذه الإصلاحات بالقوّة من خلال اشتراط التمويل. "وهذه هي نقطة القوّة الوحيدة لتنفيذ الشروط الإصلاحية وتطبيقها. فالجهة المموّلة اليوم هي المودعين، والقادر على التصرف بالأموال هو نائب الحاكم الذي وضع سقفاً مرتفعاً. فإذا استطاع الالتزام والصمود في موقفه من عدم تمويل الدّولة قبل إقرار الإصلاحات، قد ننجح في انتشال الاقتصاد. أمّا في حال العكس فإنّ النتيجة ستكون انهيار كامل للقطاع العام وبالتالي الانتقال إلى شريعة الغاب، مع ما تتركه من انعكاسات سلبية على مجمل الأوضاع".

لكن ألم يكن هذا هو الواقع مع صندوق النقّد الدولي، وقبله مؤتمر سيدر. فالجهتان اشترطتا تحقيق الإصلاحات لتأمين التّمويل. فلم يتحقّق شيء، ولم تتأمّن الأموال. فهل من الممكن أن يقرض المركزي اليوم الدولة من دون ضمان تنفيذ الإصلاحات، حتّى لو أقرّت بعض القوانين؟ وهل سنبقى ندور في الحلقة المفرغة إلى حين استنزاف آخر دولار والانتقال إلى الذهب لنصبح عندها "على الحديد"، وفي حال تحقيق الإصلاحات ما الحاجة إلى المخاطرة بأموال المودعين، في حين يمكن الحصول على دعم وتمويل صندوق النّقد؟... إنّ غداً لناظره قريب.