افتُتح الأسبوع الطالع على بدء مجلس الوزراء مناقشة مشروع موازنة 2023، المحال متأخّراً من وزارة المالية قرابة العشرة أشهر. "أن تأتي متأخّراً خير من ألاّ تأتي أبداً"، مثلٌ مشكوك بصحته في حال أردنا إسقاطه على القوانين الماليّة في لبنان، وفي مقدمتها قانون الموازنة العامة. فالنّظر إلى أرقام الموازنة وأهدافها في بلد يعاني من سقوط اقتصادي حرّ من على "ارتفاع" أربعة أعوام، يقود إلى الاستنتاج أنّ الموازنة هي "مشروع" مشكل جديد في البلد، وليس حلّاً كما يفترض بها أن تكون.
كثيرة هي المواد الإشكالية من الناحيتين القانونية والمالية التي سنتناولها تفصيلياً ونحلّلها مع خبراء في مقالات متتابعة. إلّا أنّ أكثر ما يلفت الانتباه من النظرة الأولى هو حجم النّفقات الهائل البالغ 181923 مليار ليرة أو 1.9 مليار دولار على سعر صرف 91 ألف ليرة. 46.4 في المئة من هذه النّفقات مخصّصة لموظّفي القطاع العام، و7 في المئة كفوائد على سندات الخزينة والقروض الداخلية. فبحسب تقرير حول مشروع قانون الموازنة للدّولية للمعلومات يتبيّن أنّ النفقات على بنود الرواتب وملحقاتها، والمخصّصات الاجتماعية والمساهمات بلغت 84589 مليار ليرة. فيما بلغت قيمة الفوائد على سندات الخزينة والقروض الداخلية 12782 مليار ليرة.
"جدول نفقات" وليس موازنة
وممّا يتبيّن بحسب تقرير الدّولية للمعلومات أنّ "النفقات المقدّرة في موازنة 2023 تضاعفت كمعدّل عام 4.45 مرّة نسبة لموازنة العام 2022، أو بزيادة قدرها 141 ألف مليار ليرة عن العام 2022". إلّا أنّ هذه النّفقات توزّعت بطريقة غير عادلة، إن لم نقل مشوّهة بدرجة كبيرة. حيث تضاعفت "نفقات وزارة المالية 19 مرّة، ونفقات رئاسة الجمهورية 15 مرّة، ووزارة الأشغال 9.9 مرّات". في المقابل تضاعفت نفقات وزارة الصّحّة 2.5 مرّات فقط. والحصّة الأقلّ من النّفقات كانت من نصيب وزارة العمل التي بلغت 1.3 مرة فقط. "وهذا ما يقودنا للاستنتاج إلى أنّ ما جرى وضعه ليس موازنة، بالمعنى الاحترافي للمصطلح، إنّما جدول لتوزيع الضّرائب والرّواتب والفوائد"، يقول مدير المحاسبة السّابق في وزارة الماليّة أمين صالح. "فلم تتضمّن الموازنة رؤية إصلاحية جدية، ولا توجّه حقيقيّ نحو الإنقاذ، ولا معالجة الإشكاليّات الكبيرة المتعلّقة بسعر الصّرف أو الدّين العام.. وخلافه من المواضيع". وهي تحفل من الجهّة الأخرى بزيادات هائلة على الضّرائب والرّسوم، لدرجة "لم ينجُ منها، إلّا من أراد فتح الشبّاك لتنشّق بعض الهواء"، يقول صالح ساخراً، ليدلّل على توسيع مروحة الضرائب وزيادة قيمتها. وهذه الزيادة لم تنعكس تحسّنا في رواتب القطاع العام. حيث بقيت الرواتب أقلّ بنحو 8 أضعاف عمّا كانت عليه قبل العام 2019. كما لم تنعكس زيادة في النفقات الاستثمارية الأساسيّة لعمليّة النهوض والتعافي من الانهيار.
النّفقات التّشغيليّة تستحوذ على حوالي 93٪ من مجمل النفقات
إذاً، الاختلال في بنية النّفقات في موازنة 2023 لم يقتصر على استحصال الرّواتب والأجور والفوائد على أكثر من ثلثي الانفاق العام، إنّما انسحب أيضاً على كيفية توزيع النفقات، بين النّفقات العاديّة أو التشغيلية والنّفقات الاستثمارية. ومما يتبيّن من الأرقام أنّ النفقات العاديّة استحوذت على 93 في المئة من النفقات، وبلغت 170 ألف مليار ليرة، من أصل مجمل النفقات المقدّرة بـ 181239 مليار ليرة، فيما بلغت النفقات الاستثمارية 11.9 ألف مليار ليرة فقط. "وهذا أمر طبيعي بالنّظر إلى أعداد الموظّفين في الدولة"، برأي رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني. "حيث تمتصّ الرّواتب والأجور وملحقاتها معظم النّفقات. في حين أنّ بلد بحجم لبنان الجغرافي والاقتصادي لا يتطلّب هذا الكمّ من الموظفين". وعلى غرار سابقاتها من الموازنات، "استمرت موازنة 2023 بالتّعاطي بشكل خاطئ مع الوظيفة الرّسمية باعتبارها نوع من الحماية الاجتماعية". يقول مارديني. "وذلك بدلاً من مقاربتها من زاوية كيفية ترشيق القطاع العام وتقديمه أفضل خدمة بأقلّ تكلفة. بعبارة أخرى أن يخدم الوطن بدلاً من أن يكون عالة عليه. ولعلّ المدارس الرّسميّة هي خير مثال مصغّر عن واقع القطاع العام حيث يتبيّن الخلل البنيوي من خلال مقارنة عدد الأساتذة والمدارس، مع أعداد الطّلاب، وبالمقارنة بينها وبين المدارس الخاصّة حيث يعمل في قطاع التّعليم الرّسمي ضعف عدد الأساتذة بالمقارنة مع المدارس الخاصّة التي تستقطب ثلثي أعداد التّلامذة في لبنان". وهذه التّخمة في أعداد الموظفين تنسحب على كلّ القطاعات والدوائر الرّسمية".
تراجع النفقات الاستثمارية.. "خير" غير مقصود
أمّا في ما يتعلّق بالنّفقات الاستثمارية، فإنّ تراجعها بسبب الأزمة هو عنصر خير وليس شرّ كما يصوّره البعض. فعلى الحكومة أن تكفّ يدها عن الإنفاق الاستثماري وتسمح للقطاع الخاص القيام بالمهمة"، يقول مارديني. فعدا عن كون الانفاق الاستثماري ليس من اختصاص القطاع العام، فهو لطالما كان باباً للفساد من خلال الصّفقات العموميّة التي تتوزّع على المحسوبيات وبقيم أعلى بأشواط من قيمتها الحقيقية". ويذهب مارديني لأبعد من الفشل في قطاع الكهرباء والاتصالات والبنى التحتية ليقول أنّ الجسور والطرقات يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص مقابل بدل يستحصل عليه من المواطنين كما يجري في معظم دول العالم. ونوفّر بذلك على الخزينة مبالغ هائلة من الهدر في الإنفاق ونشجّع الاستثمار ونقدّم أفضل خدمة بأقلّ الأسعار.
الإنفاق المضخّم أصل البلاء
في الحالتين، فإنّ الإنفاق سواء كان استثماري أو تشغيلي، وبغضّ النّظر عن كيفيّة توزيع النّسب بينهما، فإنّهما أصل البلاء. "فهذا الكمّ الهائل من النّفقات هو أساس المشكلة الجوهرية التي نعيشها في لبنان"، يقول مارديني. "والسّبب أنّ الموازنة الحالية أعجز من تغطية هذه النفقات من الإيرادات، وذلك على غرار كلّ الموازنات السابقة. الأمر الذي أدّى، ويؤدّي، إلى خلل كبير في المالية العامّة، سرعان ما انسحب على السّياسة النقديّة والاقتصادية". وبحسب مارديني فإنّ "تعويض العجز النّاتج عن تضخّم النفقات عادة ما كان من خلال الاقتراض من المصرف المركزي بالعملة الأجنبية على سعر صرف مثبّت، وبالليرة. فولّد فجوة نقديّة مصرفيّة كبيرة بالعملة الأجنبية، ما زلنا نعيش تداعياتها. وتمويل الاقتراض تحوّل من بعد العام 2019 إلى طباعة الليرات. الأمر الذي أدّى إلى انهيار سعر الصّرف، وتضخّم هائل في الأسعار وفقدان العملة الوطنية لقيمتها الشرائية. وبرأي مارديني فإنّ "الانفاق الهائل للدولة يدخل في جوهر مجموعة كبيرة من الأزمات التي نعيش تداعياتها".