لم تحُل انشغالات المسؤولين في السلطتين المالية والنقدية، دون معايدة اللبنانيين بعيد الأضحى. فالأولى أضاءت سماء الانهيار الملبّدة بغيوم الفساد بـ "مفرقعات" الإحجام عن نشر تقرير التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. والثانية "ناولت" المودعين "عيّدية" استمرار العمل بالتعميم 151 من دون تعديل بقيمة السحوبات.

الابتعاد النّسبي عن هموم السياسة وانتخابات الرئاسة أيام عطلة العيد، ستنعكس تفجّراً للملفّات مطلع الأسبوع المقبل. فإضافة المزيد من "رماد" التأجيل والتسويف، فوق "جمر" الملفّات المالية قد يؤخّر الحريق ولكنّه لن يمنعه. وهذا ما أكد عليه أيضاً تقرير صندوق النقد الدولي على صعيد الموظفين لاستشارة المادة الرابعة لعام 2023. الذي قال صراحة أنّ لبنان أمام خيارين: إمّا تبنّي الإصلاحات. وإمّا الاستمرار بالانهيار والسير بالبلاد بطريق لا يمكن التنبّؤ به. متوقّعاً ارتفاع الدّين العام إلى 550 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول عام 2027 إذا استمر الوضع على ما هو عليه.

تمديد العمل بالتعميم 151 دون أيّ تعديل

أوّل أيّام العيد فاجأ مصرف لبنان المودعين بتمديد العمل بالتعميم 151 من دون أيّ تعديل بقيمة السحوبات. فأبقى على سعر صرف 15 ألف ليرة، لكلّ دولار يتمّ سحبه من الحسابات المستحقّة بالدولار، وضمن سقف 1600 دولار أميركي للحساب الواحد شهرياً. ولم يعمد المركزي، كما كان متوقعاً، إلى رفع سقف السحوبات إلى ما بين 30 و35 ألف ليرة. وهو الأمر الذي مثّل استمرار الـ "هيركات" بنسبة 83 في المئة. أو ما يعني بلغة الارقام خسارة المودعين 78 ألف ليرة بكل دولار يسحبوه من حساباتهم راهناً. فهم يسحبون الدولار على أساس 15 ألف ليرة، فيما يبلغ سعر الصّرف في السوق الموازي 93 ألف ليرة. وكان من شأن رفع قيمة السحوبات إلى 35 ألف ليرة تخفيض نسبة الاقتطاع إلى حدود 60 في المئة. وهي النسبة التي حكمت تقريباً الفرق بين سعر السوق وسعر السحوبات منذ بداية الانهيار. وما يزيد الطين بلّة بحسب مصادر المودعين هو "عدم التزام أكثريّة المصارف بتسديد الحصّة الشهرية (1600 دولار) نقداً، إنّما تعمد إلى دفع مبلغ يتراوح بين 600 و 1000 دولار على سعر 15000 ليرة نقداً، وتضع المبلغ المتبقّي في حسابات البطاقة. وأمام رفض البطاقات من معظم متاجر التجزئة تخرج الدولارات من المصارف بـ "هيركات" 83 في المئة، وتعلق بحسابات البطاقات بالليرة مع عجز واضح عن الاستفادة منها.

وقف السحوبات بالليرة بحسب التعميم 158

في المقابل أوقف مصرف لبنان دفع 400 دولار بالليرة اللبنانية على سعر 15 ألف ليرة تبعاً للتعميم 158، مبقياً على تسديد 400 دولار نقداً يدفعها مناصفة بينه وبين المصرف. وبحسب المعلومات فإنّ وقف الدّفع بالليرة اللبنانية بحسب التعميم 158 لم يهدف إلى تقليص "الهيركات"، بقدر ما هدف إلى تخفيض حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي تعود وتنعكس ارتفاعاً بسعر صرف الدولار.

على الرغم من تعرض المودعين إلى أبشع أنواع "الهيركات"، وأكثرها انعداماً للمنطق في مختلف الازمات العالمية، إلّا أنّ التاريخ بيّن أنّ أيّ زيادة برفع قيمة السحوبات بالليرة ستنعكس حكماً زيادة بسعر الصّرف، حتّى مع تخفيض سقف السّحب. فكيف الحال هذه المرة في ظلّ عدم قدرة المركزي على تخفيض سقف السحب عن 1600 دولار، التي بالكاد تكفي لتمويل فاتورة الاستهلاك عند المودعين. وبالتالي لا تلبث أن تعود نسبة الاقتطاع لترتفع بعد مدّة قصير. وبحسب الخبير المصرفي نيكولا شيخاني فإنّ "مصرف لبنان قد يكون يتقصّد الإبقاء على "الهيركات" الذاتي AUTO HAIRCUT مرتفعاً لهذه الدرجة لعدم تشجيع المودعين على السحب. وبالتالي تضخيم الكتلة النقدية بالليرة". وبرأيه فإنّ "المودع سيستمرّ بدفع الثّمن الأكبر طالما لا يوجد خطة نقدية وضرائبية ومالية متجانسة مع بعضها البعض". وعليه فإنّ المطلوب "خطّة تحافظ على أموال المودعين، وتضمن القوّة الشرائية للمواطنين الذين يتعاملون بالليرة اللبنانية، وليس المزيد من الإجراءات الترقيعية".

المالية والتدقيق الجنائي في مصرف لبنان

من جهة أخرى رفضت وزارة المالية إطلاع الرّأي العام والمسؤولين على نتائج تقرير التدقيق الجنائي في مصرف لبنان الذي أجرته شركة "مارسال آند ألفاريز". وقد اعتبرت الماليّة في بيان أنّ ما تسلّمته، ما هو إلّا مسودّة عن التقرير الأوّلي للتدقيق الجنائي، وما زال في صيغة غير نهائية، وقيد جمع إيضاحات حول بعض الاستفسارات. كما اعتبرت المالية أنّ "العقد مع شركة "ألفاريز آند مارسال" قد تمّ توقيعه مع الحكومة اللبنانية ممثلة بوزير المالية، وإنّ دور وزارة المالية فيه يقتصر بحسب أحكام العقد، على التّنسيق بين مصرف لبنان وشركة التدقيق، ليس أكثر. وعليه يكون التقرير ملكاً للحكومة اللبنانية وليس لوزارة المالية، ما يستدعى معه أن تسلّم النسخة النهائية عنه عند جهوزها، إلى مجلس الوزراء. وبالتالي فإنّ التصرّف بمضمونه يبقى من صلاحيات هذا المجلس". تبرير وزارة المالية نقضه المحامي البروفيسور نصري دياب المتابع للملفّ منذ العام 2020، معتبراً أنّ العقد موقّع من "الجمهورية اللبنانية" ممثلة بوزارة المالية، وأن لا ذكر للحكومة في العقد. وعليه، فإنّ علاقة الشركة هي مع وزارة المالية بصفتها ممثلة للجمهورية بتوقيع شخص وزير المالية الدكتور غازي وزني، خاصّة بالنّظر الى العلاقة القانونية القائمة بين وزارة المالية ومصرف لبنان المستهدف بالتدقيق الجنائي". وأشار البروفسور دياب الى أنّ "العقد يذكر وجود تقرير أوّلي Preliminary Report ، وليس مسودّة تقرير Draft، فيتوجب بالتالي على وزارة المالية اتخاذ الاجراءات اللازمة بعد تسلّم التقرير".

بدوره اعتبر النائب ملحم خلف أنّه "قبل أن يكون التّقرير ملك الحكومة فهو ملك الشعب اللبناني. ومسؤولية المالية تقتضي تسليمه لكلّ من يطلبه. وذلك بالاستناد إلى القانون رقم 28 المتعلّق بحقّ الوصول إلى المعلومات. وهو القانون المقرّ في العام 2017، والصادرة مراسيمه التطبيقية تحت الرقم 6940 في أيلول 2020. كما أنّ وزارة الماليّة مطالبة بحسب النائب خلف بتسليم تقريري "أوليفر وايمن"، و"كي بي أم جي" المنجزان منذ فترة والمعنيان بشكل مباشر بمراجعة الحالة المالية لمصرف لبنان، وإظهار أسباب الاختلال في التوازن المالي للقطاع المصرفي".

إضافة إلى "عيدية" السّلطة، لم ينس صندوق النّقد الدولي معايدة اللبنانيين بتقرير مفصّل عن الوضع الاقتصادي والمالي، وعن خطورة استمرار التّغطية على الفساد والمفسدين على مستقبل لبنان. مجدّداً الدعوة إلى البدء بالإصلاحات المقرّة والموافق عليها قبل فوات الأوان... فهل من يسمع ويتّعظ؟!