ادت التساؤلات عن إمكانيّة رفع "المركزي" سقف السحوبات من 15 ألف ليرة، إلى ما بين 30 و35 ألف ليرة، مع اقتراب انتهاء العمل بالتعميم في 30 حزيران المقبل.  

استبدل التعميم 151 الصادر في نيسان 2020 إجراء الـ "Haircut" الذي عادة ما يُتّخذ في الأزمات النقدية، بـ "Headcut". فهذا التعميم الذي يتيح للمصارف تسديد الودائع الدولارية بالليرة، وعلى سعر صرف يحدّده مصرف لبنان، لم يتحوّل من استثنائي إلى دائم فحسب، إنّما اعتمد سعر صرف للسحوبات يقلّ بـ 80 في المئة عن سعر صرف السوق في مختلف مراحله. الأمر الذي أصاب المودعين بمقتل. وعلى غرار ما يحدث قبل أيام من انتهاء مفعول التعميم، عادت التساؤلات عن إمكانيّة رفع "المركزي" سقف السحوبات من 15 ألف ليرة، إلى ما بين 30 و35 ألف ليرة، مع اقتراب انتهاء العمل بالتعميم في 30 حزيران المقبل.  

في الوقت الذي ارتفع فيه سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار 94 ضعفاً، من 1500 ليرة إلى حدود 142 ألفاً، لم يزد سعر صرف السحوبات "المختلق" من حسابات الدولار إلّا 10 أضعاف. والمفارقة أنّه في كلّ مرّة كان يجري فيها رفع سقف السحوبات، كان سعر الصّرف في السّوق الموازي يرتفع باضطراد. فيتلاشى سريعاً مفعول الزيادة، ويعود المودعون إلى ما كانوا عليه سابقاً.

مراحل التعميم 151 وتطور سعر الصرف

في 21 نيسان 2020 طلب مصرف لبنان من المصارف تسديد سحوبات الزبائن من ودائعهم بالدولار، بالليرة. وحدّدت وقتها المصارف سعر الصّرف بثلاثة آلاف ليرة، في حين كان سعر الصرف في السوق الموازي يبلغ حوالي 3400 ليرة. إلّا أنّه سرعان ما أخذ سعر الصرف بالارتفاع حتى وصل إلى 8000 ليرة في حزيران من العام نفسه. الأمر الذي دفع مصرف لبنان إلى رفع سعر الصرف للسحوبات من الودائع بالدولار إلى 3900 ليرة، مع ترك حرّيّة تحديد سقوف السحب للمصارف، قبل أن يعود ويحدّدها بـ 5000 دولار أميركي.  

السّحب على سعر 3900 ليرة صمد فترة طويلة، ولم يرفع المركزي سعر الصرف للسحوبات إلى 8000 ليرة، إلّا في كانون الأول 2021، عندها كان سعر الصّرف في السّوق الموازي يبلغ 28 ألف ليرة. ما يعني أنّ نسبة "الهيركات" وصلت إلى 71 في المئة لحظة زيادة سعر الصرف. وحدّد مصرف لبنان سقف السحوبات بـ 3000 دولار أميركي.

استمرّ العمل بالسحب على سعر 8000 ليرة لأكثر من عام، ولم يعاود مصرف لبنان رفعه إلى 15 ألف ليرة إلّا في 20 كانون الأول 2023، على أن يبدأ التطبيق في الأول من شباط 2023. عندها كان سعر الصرف في السوق الموازي يبلغ 50 ألف ليرة. ما يعني أنّ معدل "الهيركات" لم يتغيّر، وبقي بحدود 70 في المئة. وقد عمد المركزي إلى تخفيض سقف السحوبات إلى 1600 دولار للحدّ من انفلاش الكتلة النقدية بالليرة. إلّا أنّ تخفيض سقف السحوبات لم يحل دون ارتفاع الدولار في المرحلة التي تلت التعديل، وصولاً حتى 141 ألف ليرة في 21 آذار الفائت. وذلك قبل أن يعود سعر الصّرف لينخفض اصطناعياً إلى حدود 93 ألف ليرة حالياً. ومع هذا فإنّ نسبة "الهيركات" من ودائع الدولار تبلغ اليوم حوالي 85 في المئة. وهي ستتراجع إلى 62 في المئة في حال رفع سعر صرف السحوبات إلى 35 ألف ليرة، في حال التسليم جدلاً بأنّ سعر الصّرف في السوق الموازي لن يرتفع عن 94 ألف ليرة. إلّا أنّ السؤال: هل هذا ما سيحصل؟

مصير التعميم 151

التحليل المنطقي لسياق الأمور يفترض "أنّ مصرف لبنان سيعمد مجدداً لرفع قيمة السحوبات إلى رقم جديد، امتصاصاً لنقمة المودعين. خصوصاً بعدما أصبح سعر الصرف في السوق الموازي 94 ألف ليرة"، تقول عضو جمعية رابطة المودعين المحامية دينا أبو زور. "ولكن خلافاً لكل الاعتقادات أنّ هذا السعر سيخفّف من الاقتطاع من قيمة الودائع، فالحقيقة أنّ استمرار العمل بالتعميم، بغضّ النظر عن السعر المعتمد، ما هو إلا طريقة لتذويب الودائع في النظام المصرفي. وهذا ما تثبته الأرقام. حيث تراجعت الودائع بالدولار من حدود 124 مليار دولار مطلع الأزمة إلى 93،9 ملياراً في نيسان الماضي. كما ويدلّ عليه خروج آلاف الحسابات الصغيرة من النظام المصرفي خلال سنوات الأزمة". وبرأي أبو زور فإنّ "التعميم 151 مخالف للقانون، لأنّ الوديعة يجب أن تردّ بحسب قانوني الموجبات والعقود والنّقد والتسليف، بنفس عملة الإيداع، وليس على أسعار صرف مختلقة. من دون أن ننسى أنّ هناك قراراً بإبطال التعميم 151 صادر عن مجلس شورى الدولة في حزيران 2021. وقد قضى وقتها بإلزام المصارف إعادة الودائع بالدولار وبقيمتها الحقيقية. إلّا أنّه مع الأسف لم يطبّق حُكم مجلس الشورى بسبب تدخل السلطة السياسية، والادّعاء بعدم تسلّم مصرف لبنان القرار الصادر باجتماع جمع رئيس مجلس الشورى بحاكم المصرف المركزي في قصر بعبدا بحضور رئيس الجمهورية آنذاك، العماد ميشال عون.

تداعيات رفع قيمة السحوبات من حسابات الدولار

على غرار ما حدث عقب كلّ تعديل على التعميم 151 قضى برفع قيمة السحوبات من حسابات الدولار بالليرة، من المحتّم أن يشهد سعر الصّرف في السوق الموازي المزيد من الارتفاع. وهذا يعود إلى مجموعة من العوامل، أبرزها:

- عجز مصرف لبنان عن الاستمرار في ضخّ الدولار على منصّة صيرفة من أجل شراء الليرات. فهذه العملية التي تفتقد إلى الشفافية، مكلفة جداً وتدفع باستمرار إلى ارتفاع سعر الصرف نتيجة طلب مصرف لبنان المتزايد على الدولار من السوق، أو من المتبقي من الاحتياطي لتلبية التحويلات بحسب التعميم 161.

- التشكيك بقدرة مصرف لبنان على تخفيض سقف السحوبات بمقدار النّصف من 1600 دولار راهناً إلى 800 دولار، بالتوازي مع رفع قيمة السحوبات من 15 إلى 35 ألف ليرة. فالمبلغ الذي يسدّد 50 في المئة منه نقداً تعادل 12 مليون ليرة، و50 في المئة أخرى في البطاقات المصرفية، لا يكفي لسداد الفاتورة الاستهلاكية للمواطنين. وأيّ زيادة في المبالغ الموضوعة في البطاقات ستحرم المودعين من الوصول إلى حاجاتهم. خصوصاً في ظلّ رفض أكثرية نقاط البيع قبول الدفع بالبطاقات.

على الرّغم من غياب المنطق عن تخفيض سقف السحوبات لا تستبعد أبو زور "لجوء المصارف إلى الاستنسابية في تحديد الأسقف كيفما تشاء. ورابطة المودعين تسجّل الكثير من الشكاوى برفض مصارف السماح بالسقف الذي يضعه مصرف لبنان".

في جميع الحالات فإنّ رفع قيمة السحوبات إلى 35 ألف ليرة سيبقي نسبة "الهيركات" 62 في المئة في ظلّ سعر صرف 94 ألف ليرة. أمّا في حال عاد وارتفع سعر الصرف إلى 127 ألف ليرة، فإنّ نسبة "الهيركات" ستعود كما هي عليه اليوم أي 84 في المئة. ولا شيء سيتغير فعلياً، غير إضافة المزيد من الانتفاخ على الكتلة النقدية بالدولار.

الحل معروف، ولكن

في 9 كانون الأول 2021 وفي معرض تبريره لرفع قيمة السحوبات إلى 8000 ليرة، قال مصرف لبنان إنّه أقرّ الرفع، "بانتظار الخطّة الحكومية التي تسمح بتوحيد سعر الصرف، وحماية الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، والحدّ من خسائر المودعين". وقد اعتبر أنّ هذا الاجراء سيعتمد إلى حين وضع خطة حكومية متكاملة وشاملة تتوافق مع المبادئ الاقتصادية والاصلاحية ومتطلّبات صندوق النّقد الدولي، بما يسمح بإعادة تفعيل ونموّ الاقتصاد المحلّي وإصلاح القطاع المالي للتوصّل إلى حلول عادلة ومتوازنة تحفظ حقوق المودعين وتشكّل أساساً لإعادة الثقة. ومن هنا يبد الحلّ، لكن ما من أحد يريد التطبيق!