ينشغل المطّلعون على الأزمة اللبنانية في الدّاخل والخارج بالبحث عن السرِّ وراء صمود المواطنين. فالمؤشّرات الاقتصادية تخلق انطباعاً بأنّ البلد مفلس، والشوارع مهجورة من شاغليها، والسكّان يتضورون جوعاً، فيما الحقيقة على أرض الواقع مغايرة لهذه الصور المتخيّلة. والسبب لا يعود إلى عدم صوابية الأرقام والمؤشّرات، إنّما إلى مجموعة من العوامل الرديفة، منها: التحويلات النقدية من المغتربين، المحصيّة وغير المحصيّة.
استحوذ لبنان في العام 2022 على حدود 7 مليارات دولار من التحويلات. واحتلّ بذلك المركز الثالث عربياً على صعيد حجم التحويلات للدول بعد كلّ مصر والمغرب، اللتان استقطبتا 31 و12 مليار دولار على التوالي. إلاّ أن أهمية هذه التحويلات ومدى تأثيرها بالاقتصاد لا تقاس بالحجم، إنّما بنسبتها من الناتج المحلّي الإجمالي. ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه نسبة التحويلات من الناتج 7.5 في المئة في كلّ من مصر والمغرب للعام 2022، بلغت نسبتها في لبنان 37.8 في المئة، بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، الصادر مؤخّراً تحت عنوان "الدور المتزايد للتحويلات النّقدية وأهميتها في لبنان". وقد يحتلّ لبنان المركز الأول عالمياً وليس عربياً فقط، إذا ما قورنت التحويلات مع الناتج المحلّي الإجمالي.
متوسّط التحويلات يفوق الحدّ الأدنى للأجور بخمسة أضعاف
مؤشّر آخر تحتّم المعطيات التوقّف عنده لمعرفة أهمية التحويلات ودورها المتزايد في دعم الأسر، وهو نسبتها من متوسط المداخيل والحدّ الأدنى للأجور. فبحسب أرقام شركة OMT التي تستحوذ على 80 في المئة من سوق تحويل الأموال من وإلى لبنان، تلقّى في العام 2022 حوالي 265 ألف مستفيد شهرياً التحاويل الواردة من الخارج بالدولار الأميركي نقداً عبر شبكة فروع OMT البالغ عددها 1400 فرع. 75 في المئة من التحاويل أقلّ من 500 دولار أميركي، و15 في المئة من التحاويل فقط، قلّت قيمتها عن 100 دولار أميركي. وعليه فإن "متوسّط قيمة الحوالات الذي يبلغ 450 دولاراً"، بحسب أرقام الشركة، يفوق بحوالي خمسة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور الذي يساوي 96 دولاراً، وثلاثة أضعاف متوسّط دخل الموظفين في القطاع العام بعد مضاعفتها سبع مرات.
بشكل عام يتوقّع أن تكون 350 ألف أسرة، تشكّل نحو 25 في المئة من مجموع العائلات، تستفيد بشكل مباشر من التحويلات عبر شركات تحويل الأموال. إلّا أنّه في الحقيقة لا يمرّ عبر هذه الشركات سوى مبلغاً يقدّر بين 2 و2.5 مليار دولار، من أصل 7 مليار دولار التي تحصيها المؤسّسات الدولية ومنها البنك الدولي. ومن المحتّم أن يكون نحو ثلثي العائلات أي ما يوازي 750 إلى 800 ألف عائلة تستفيد من تحويلات من الخارج بشكل مباشر أو غير مباشر.
الاستفادة المنقوصة من التحويلات
سجّل عدد التحاويل الواردة من الخارج عبر شركة OMT زيادة بنسبة 25 في المئة في العام 2022 بالمقارنة مع العام 2021. ووصلت التحاويل من حوالي 175 دولة، وعلى رأسها أستراليا والولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج وكندا وألمانيا والسويد وفرنسا. إلّا أنّه على الرغم من زيادة التحاويل قيمة وعدداً ودورها الكبير في مساعدة الأسر على تخطّي واحدة من أصعب المراحل في لبنان تبقى الاستفادة منها محدودة. "فقد تغيٌر دور هذه التحويلات بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية وباتت تستخدم كأداة لتمويل الاحتياجات الأساسية كالغذاء والإيجار وفواتير الكهرباء"، بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الانمائي. "في حين أنّها كانت تستخدم في الفترة التي سبقت الأزمة، للاستثمار في بناء رأس المال البشري، كالصحّة والتعليم". وبذلك أصبحت التحويلات النقدية اليوم من وجهة نظر "البرنامج" بمثابة "شبكة أمان اجتماعية للأسر اللبنانية. وفي ظلّ غياب نظام حماية اجتماعية متطوّر وشامل، باتت هذه التحويلات تستخدم للتعويض- وإن بشكل جزئي- عن الخسائر في القيمة الحقيقية للدخل والناتجة عن تدنّي قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم.
توظيف التحويلات في النمو الاقتصادي
تقتضي الواقعية الاقتصادية إيجاد الطرق المناسبة للاستفادة من هذه التحويلات بأقصى درجة ممكنة، وتوظيفها في خلق قيمة مضافة. وذلك حماية للمجتمع ككل، وإكراما للمغتربين الذين يجهدون لإرسال الأموال. وبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الانمائي الذي ساهم في إعداده مدير "مبادرة سياسات الغد"، سامي عطالله هذا لا يتمّ إلّا من خلال استثمار هذه التحويلات في مبادرات النهوض والتنمية المحلية، مما يساعد لبنان على تعويض الخسائر التنموية التي تسبّبت بها الأزمة، وعلى إعادة تشكيل مسار التنمية في البلاد. وهذا ما يتطلب وجود إطار ناظم مناسب لترشيد استخدام التحويلات النقدية وتوجيهها بشكل أكثر فعالية نحو مبادرات النهوض والتنمية المحلّية، وتلبية احتياجات المجتمعات المحلّية، خاصّة في أوقات الأزمات.
وتتكوّن ركائز هذا الإطار من:
- فهم أفضل لحجم ووتيرة التحويلات النقدية من خلال تعريفها بشكل أفضل وتحسين دقّة البيانات المتاحة.
- استعادة الثّقة بالاقتصاد اللبناني من خلال تحسين بيئة الأعمال.
- تطوير آليات شفّافة لتوجيه أموال المغتربين إلى الاستثمارات المحلّيّة (يمكن أن تكون سندات المغتربين إحدى الخيارات المتاحة).
- تسهيل وتعزيز الحلول البديلة والميسورة التكلفة لإرسال التحويلات كالحلول الرقمية.
- العمل على تخفيض تكلفة التحويلات النقدية. خصوصاً أنّ كلفة التحويل إلى لبنان تتراوح بين 11و 13.5 في المئة في حين يبلغ المتوسط العالمي 6 في المئة. وتطالب الأمم المتحدة بتخفيضه إلى 3 في المئة.
وتبقى شريان الحياة
التحويلات الماليّة من المغتربين لذويهم تشكّل بحسب أمين عام الامم المتحدة أنطونيو غوتيريش "شريان الحياة". حيث يستفيد نحو 800 مليون إنسان على وجه المعمورة من تحويلات نحو 200 مليون مغترب. كما تصيب هذه التحويلات في سبعة أهداف على الأقل من اهداف التنمية المستدامة للألفية، المفترض تحقيقها لغاية العام 2030. ومن أبرزها:
- القضاء على الفقر (هدف التنمية المستدامة 1).
- الترويج للقضاء التام على الجوع (هدف التنمية المستدامة 2).
- الصحة الجيدة (هدف التنمية المستدامة 3).
- التعليم الجيد (هدف التنمية المستدامة 4).
- المياه النظيفة والنظافة الصحية (هدف التنمية المستدامة 6).
- العمل اللائق ونموّ الاقتصاد (هدف التنمية المستدامة 8).
- الحدّ من أوجه عدم المساواة (هدف التنمية المستدامة 10).
لبنان الرسمي الذي يحتفل "بالطالع والنازل" بالأعياد، ويختلق في أحيان كثيرة المناسبات ليعطّل فيها، لا يقيم وزناً لـ "اليوم الدّولي للتحويلات المالية العائليّة"، المحدّد من الأمم المتحدة بـ 16 حزيران من كلّ عام. مئات الآلاف من اللبنانيين المغتربين طوعاً وقسراً، والمنهوبة ودائعهم، لا يسمعون في هذا اليوم كلمة شكر من المسؤولين. ولا يحظون بوقفة تقدير لدورهم في مساعدة آلاف العائلات على الصمود والاستمرار، بعدما عاثت المنظومة بالبلد هدماً وفساداً.