يحلو للسلطة السياسية منازلة المواطنين البسطاء على أرضها والفوز عليهم بلعبتها الاقتصادية التي أتقنتها أبّاً عن جدّ. ولكي تضيف عامل التشويق، تأبى السلطة القضاء على ما تبقّى من قدرة شرائية هزيلة بالضّربة القاضية، بل تأخذ وقتها برفع الأسعار تدريجيّاً بصولاتٍ وجولات تبدو لانهائية. فتحقّق أهدافاً "غير نظيفة" في ظل غياب "حَكَم" الإصلاحات المفروض به السّهر على توزيع الأكلاف والمسؤوليات بعدالة.
هذا الواقع المفتوح على مختلف السيناريوهات، دفع بصندوق النّقد الدولي إلى التحذير من خطورة الوضع في لبنان على لسان المتحدثة باسمه جولي كوزاك. إذ قالت إنّ "لبنان بحاجة إلى تحرّك عاجل لتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل لوقف الأزمة الشديدة والمتفاقمة والسماح لاقتصاده بالتعافي". مضيفة: "نحن قلقون من عواقب يتعذر إصلاحها على الاقتصاد، وخاصّة على الفقراء من اللبنانيين والطبقة الوسطى".
لا نية جدية للإصلاح
تحذيرات صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسّسات الدولية لا تلقَ الآذان الصّاغية داخلياً. بل العكس، تستعرض السلطة إعلاميّاً بإصلاحات شكلية لـ "كسر" عين المجتمع الدولي والإيحاء بأنّها تسير بالإصلاحات على قدم وساق، فيما تمضي بتنفيذ مخطّطها الجهنّمي بتمويل العجز بالتضخّم ونقل العبء إلى كاهل المواطنين. وهذا ما يظهر جلياًّ في ثلاثة مواضع أساسية هي: الكهرباء المياه والاتصالات. وهي خدمات كفل الدستور اللبناني حقّ وصول جميع المواطنين إليها بعدالة وإنصاف، وتضمنّت كل شرع حقوق الإنسان ضرورة توفّرها بأسعار مقبولة لتمكين الجميع من الحصول عليها.
الكهرباء
على صعيد الكهرباء اقتصرت الإصلاحات على رفع التعرفة. فكانت النتيجة تسعير الكيلوواط ساعة أعلى بمرّتين من كلفة الإنتاج. وذلك من أجل التعويض عن الهدرين الفنّي وغير الفني اللذين يتجاوزان 50 في المئة في أفضل الحالات. كما لم تُعيّن بعد الهيئة الناظمة للقطاع بحسب ما يوصي القانون 462/2002. الامر الذي حرم قطاع الطاقة من الدخول في تطوير مشاريع الطاقة البديلة والأحفورية، على حدّ سواء على قواعد الشراكة والشفافية، وبالشراكة بين القطاعين العام والخاص. ولكي تتمكّن كهرباء لبنان من شراء الفيول وتأمين مصاريفها التي تتجاوز 500 مليون دولار سنوياً، عمدت إلى احتساب سعر الكيلوواط ساعة على أساس منصّة صيرفة؛ و"رشّ" مصرف لبنان فوقها "ملح" 20 في المئة. "هذه التعرفة التي وصلت إلى 3 ملايين و426 ألف ليرة عن أشهر كانون الثاني وشباط، لمنزل مشترك بعدّاد 20 أمبير ويستهلك 250 كيلوواط – ساعة شهرياً، ستبلغ 5 ملايين و299 ألف ليرة عن شهر آذار"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. "والمفارقة أنّّ التعرفة سترتفع بنسبة 55 في المئة. وذلك على الرّغم من "تمنين" الطاقة بتخفيض التعرفة".
وهم خفض التعرفة
تحت ضغط مطالب المواطنين وقوى الانتاج بضرورة تخفيض أسعار فواتير الكهرباء. عمدت "الطاقة" إلى خفض التعرفة الكهربائية لإصدار فواتير شهري كانون الثاني وشباط 2023 على النحو التالي:
- حسم نسبة 25 في المئة على الرّسوم الثابتة، أي على كلّ من رسم بدل الاشتراك وبدل التأهيل.
- الإبقاء على سعر الشطر الأول المدعوم، أي 10 سنت أميركي لكل ك.و.س. / لأول 100 ك.و.س. استهلاك.
- تخفيض سعر الشّطر الثاني إلى 26 سنتا أميركياً لكلّ ك.و.س. استهلاك يزيد عن 100 ك.و.س.
الإعلان يوحي بانّ تخفيضاً كبيراً ستشهده الفاتورة. إنّما في الواقع فإنّ قيمة هذا التخفيض ستبلغ ٢.٢ دولار على الأكلاف الثابتة في الفاتورة (رسم العداد، وبدل التأهيل). وعليه سترتفع الفاتورة في شهر آذار بشكل كبير جداً. "لانّ المشكلة هي باعتماد سعر صيرفة بلس"، بحسب شمس الدين. "أي 86200 ليرة عن شهر آذار. مع الإشارة إلى أنّ المؤسسة تبرّأت من سعر صيرفة بلس على أساس أنّه من اختصاص مصرف لبنان".
المياه
على صعيد المياه ارتفعت كلفة الاشتراك في بيروت، من حدود 900 ألف ليرة عن العام 2022، إلى حدود 4.2 مليون ليرة هذا العام، وبنسبة 500 في المئة. والماء مقطوعة. ويضطر المواطن إلى دفع فاتورتين إضافيتين، واحدة لمياه الشفة بتكلفة لا تقلّ عن 12 مليون ليرة، وأخرى لتعبئة خزّانات مياه الاستعمال بكلفة 21 مليون ليرة. فتصل كلفة المياه للعائلة إلى حوالي 26 مليون ليرة سنويا على اقلّ تعديل.
الاتصالات
على صعيد الاتّصالات الوضع مشابه ففي تموز 2022 رفعت وزارة الاتصالات أسعار شركتي الخلوي 6 أضعاف، وأسعار خدمات "أوجيرو" ضعفين ونصف ضعف. فزادت أسعار الخلوي بشكل كبير، فيما بقيت أسعار الاتصالات الأرضية والإنترنيت المقدم من "أوجيرو" لحوالي 500 ألف مشترك مقبولة. وأمام تراجع المداخيل وزيادة الأكلاف، ولاسيما المازوت تدرس الوزارة رفع التعرفة 7 أضعاف. وهو الأمر الذي سيرفع كلفة الاتصالات الأرضية وباقات الانترنيت بشكل سيعجز معه الكثيرون عن تحمّلها.
ولنأخذ مثالاً بسيطاً عن كيفية تطوّر اشتراكات الانترنيت الذي تقدّمه "أوجيرو". المشترك بـ 160 جيجابايت، وبسرعة 50 mbps كان يدفع 145 ألف ليرة، سترتفع فاتورته مع التعديل الجديد إلى مليون ليرة. المفارقة أنّه منذ تموز الماضي ارتفع سعر الصرف حوالي 3.3 ضعفاً، فيما لم يزد سعر المازوت الذي يشكّل 50 في المئة من الكلفة بأكثر من الضعفين. ومع هذا تنوي الاتصالات رفع التعرفة 7 مرات.
بحسبة بسيطة يتبيّن انّ عائلة مؤلّفة من 5 أشخاص ستدفع سنوياً على الكهرباء والمياه والاتصالات الأرضية، مبلغاً لن يقل عن 100 مليون ليرة. في المقابل فإنّ متوسط الرواتب في القطاع العام سيبلغ بعد رفعه 7 أضاف 14 مليون ليرة أو 168 مليون ليرة سنوياً. ما يعني أنّ ثلاث خدمات حياتية، لا يمكن الاستغناء عنها، تمتصّ نحو 60 في المئة من دخل الأفراد، في الوقت الذي يستمرّ ضرب الإصلاحات الجوهرية في هذه القطاعات، والتي من شأنها تخفيض الكلفة وزيادة الانتاجية وبالتالي تخفيض الأسعار. وهذا ما لم ولن يحصل على ما يبدو!