يمضي مصرف لبنان منفرداً في حلّ إشكالية "توزيع الخسائر" التي أثارت انقساماً عامودياً بين مكوّنات الأزمة المتمثّلة بالدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية والمودعين. وعلى حدّ المثل القائل "يا عنتر مين عنترك" تعنتّر "المركزي" ولم يجد من يردعه من نقل الخسائر المترتبة عليه وعلى البنوك التجارية إلى عاتق الدولة. وهو ما يتناقض مع أبسط شروط صندوق النقد الدولي الذي أوصى بضرورة احترام تراتبية الحقوق والمطالب لاستيعاب الخسائر.

 مقارنة بسيطة بين ميزانية مصرف لبنان نصف الشهرية المنشورة في 31 كانون الثاني 2023، وتلك المنشورة في 31 أيار 2023، تُظهر أنّ المركزي نقل ديناً على الدولة بقيمة 57.6 مليار دولار. إذ أضاف المركزي على الميزانية نصف الشهرية بندان جديدان:

البند الاوّل أضافه في منتصف شباط 2023 تحت عنوان "دين على القطاع العام"، بقيمة 247.575.453.859 مليار ليرة أو ما يعادل 16.5 مليار دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة.

البند الثاني، أضافه في ميزانية 15 أيار تحت عنوان "تعديل إعادة التقييم" استناداً إلى المادتين 75 و115 من قانون النقد والتسليف، بقيمة 521.890.823.113 ليرة، أو ما يعادل 34.8 مليار دولار أميركي.



على ماذا ارتكز المركزي

تشرّع المادّة 75 من قانون النّقد والتسليف استعمال المركزي "الوسائل التي يرى أنّ من شأنها تأمين ثبات القطع. ومن أجل ذلك يمكنه خاصّة أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً او بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية". فيما تسمح المادة 115 من القانون بفتح "المركزي" حساباً خاصاً باسم الخزينة تقيّد فيه:

-  الفروق بين ما يوازي موجودات المصرف من ذهب وعملات أجنبية بالسعر القانوني وبين السعر الفعلي لشراء أو بيع هذه الموجودات.

-   الأرباح أو الخسائر الناتجة، في موجودات المصرف من ذهب وعملات أجنبية، عن تعديل سعر الليرة اللبنانية القانوني، أو  سعر إحدى العملات الاجنبية.

الدين على الدولة يتزايد

في الوقت الذي يبدو فيه البند الأول الذي أضافه مصرف لبنان على ميزانيته نصف الشهرية ثابتاً، يتحرّك البند الثاني صعوداً وبشكل مضطرد. حيث بيّنت الميزانية نصف الشهرية المنشورة في نهاية أيّار ارتفاع هذا البند إلى 615.526.406.329 ليرة، أو ما يعادل 41 مليار دولار. وقد زادت قيمة هذا البند 6.2 مليار دولار في غضون 15 يوماً فقط. هذه الزيادة تأتّت من نقل 77 ألف مليار ليرة من بند "أصول أخرى" التي تمثّل خسائر المركزي إلى بند "تعديل إعادة التقييم"، بحسب مدير المحاسبة السابق في وزارة المال أمين صالح. وذلك بالاستناد إلى المادّة 115 من قانون النقد والتسليف. التي تتعلّق بفروقات الذهب والعملات الأجنبية. بمعنى آخر شطب المركزي ديوناً مترتبة عليه، وسجلها مطلوبات على خزينة الدولة، وذلك بالإضافة إلى الخسائر البسيطة التي نتجت عن تراجع أسعار الذهب عالمياً. وانخفاض الموجودات الثابتة بحدود 99 مليون دولار. 

فضيحة صيرفة

في المقابل يظهر أنّ "تنعّم" المواطنين بسعر صرف يقلّ عن 100 ألف ليرة منذ نهاية آذار الفائت لن يمرّ من دون عواقب على الاقتصاد. فبحسب الأرقام بلغ حجم التداول على منصّة صيرفة منذ 21 آذار، تاريخ إعلان مصرف لبنان فتح سقف شراء الليرة وبيع الدولار ولغاية اليوم، حوالي 5 مليارات دولار. ومن المؤكّد أنّ الفرق بين سعر صيرفة وسعر السوق الموازي يسجّله المركزي ديناً على وزارة المالية أي على الشعب اللبناني.  وهذا ما تظهّر ارتفاعاً في الدّين على الدولة بحوالي 57 مليار دولار منذ 15 شباط 2023.  وهذا ما تؤكّده أيضاً الملاحظة الواردة لأوّل مرة في أسفل الميزانية نصف الشهرية لمنتصف أيار، التي تقول إنّ هذه الخسائر ناتجة عن صندوق لخسائر سعر الصرف. والمفارقة أنّه لم يخطر في بال مصرف لبنان إنشاء صندوق لخسائر سعر الصرف (أي الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازي) إلّا في 15 أيار. "وهو الأمر المخالف لقانون النقد والتسليف، ولقانون المحاسبة العمومية، والمعايير المحاسبية الدولية  IFRS"، بحسب صالح. وبالتالي يمكننا الملاحظة أنّ الموجودات في العملة الأجنبية تنخفض بشكل دائم نتيجة التدخّل ببيع الدولار عبر منصة صيرفة.

المفارقة أنّ الكلفة الباهظة لمنصّة صيرفة لا تقتصر على دعم رواتب موظفي القطاع العام، إنّما تتعدّاه لتحقيق منفعة مباشرة لعدد قليل من الأشخاص الذين يبيعون كمّيات هائلة من الليرات وراء الدولار على سعر صيرفة بالتنسيق والتعاون مع مصرفيين.

المواطن يدفع الثمن

الأكلاف الناتجة عن دعم الليرة على صيرفة والخسائر التي ينقلها المركزي من عاتقه وعاتق المصارف على كاهل الدولة، سيتحمّلها الشعب اللبناني أجمع، وستغطّى بمزيد من الضرائب والرسوم في المستقبل القريب، وبتدنّي قدرة الدولة على وضع وتنفيذ خطط وسياسات الحماية الاجتماعية. وبرأي صالح فإنّ "سياسة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وهندساته الأخيرة أتت لتكمّل ما بدأه قبل سنوات في إفلاس البلاد والعباد. فمن أصل خسائر بقيمة 102 مليار دولار في ميزانية المركزي، نقل الحاكم بجرّة قلم 60 مليار دولار تمثّل 60 في المئة من الدين الذي ترتّب على الدولة من العام 1993 ولغاية الآن من الخسائر على الدولة، خلال فترة أقلّ من 4 أشهر من هذا العام. وقد أتت هذه الخسائر نتيجة تخفيض سعر الصّرف أولاً، ونتيجة الهندسات المحاسبية ثانياً".

في الوقت الذي تزداد فيه الضبابية بطريقة إدارة الحسابات في مصرف لبنان ما زالت نتيجة التدقيق الجنائي مجهولة. فهذا التدقيق الذي من شأنه كشف كلّ المخلفات والتجاوزات، ما زال معلّقاً بالتوقيت الذي تراه وزارة المال مناسباً. خصوصاً مع كشف بعض المعلومات أنّ "ألفاريز ومارسال" وهي الشركة الموكّلة التحقيق منذ أيلول 2021 قد أنجزت مهامها وسلّمت تقريرها لوزارة المالية.