بالأرقام تبيّن ميزانية مصرف لبنان عن النّصف الثاني من شهر نيسان الفائت، أنّ إجمالي حجم الدولارات على منصة "صيرفة" بلغ 686.85 مليون دولار في الأسبوعين الأخيرين من الشهر. بينما انخفضت الأصول الأجنبية لمصرف لبنان بمقدار 39.8 مليون دولار فقط خلال نفس الفترة. 

يظهر الاقتصاد اللبناني من بعيد وكأنّه مركبة فاقدة الفرامل، تنحدر باتجاه وادٍ سحيق. كلّما قربّنا الصورة أكثر، كلّما اتضح أنّ الطريق مزروعة بمطبّات مرتفعة، تخفّف عزم السقوط الحرّ نحو الهاوية؛ ولو على حساب متانة المركبة وصلاحيتها للقيادة مستقبلاً. إنّها ببساطة مطبّات "شراء الوقت" التي احترفت المنظومة رفعها، بدلاً من الإصلاح.

قبل أقلّ من شهرين، وتحديداً في 21 آذار الفائت، أعاد مصرف لبنان النّفخ في نار التعميم 161. حيث أعلن عن عملية بيع مستمرة ومفتوحة للدولار مقابل الليرة وفقاً لسعر منصّة صيرفة (90 ألف ليرة آنذاك). فهبط سعر الصّرف من حدود 145 ألف ليرة، إلى 110 آلاف ليرة مرة واحدة. وكان من المتوقع ألّا يصمد هذا الإجراء لأكثر من أيام قليلة، تنتهي مع انتهاء عيدي الفصح والفطر. وذلك جرياً على عادة الإجراءات المماثلة المتّخذة، والتي كان آخرها في مطلع آذار. إلّا أنّ أمد التّدخل طال هذ المرة، ويبدو أنّه مستمر. فما هي الأسباب؟

دولار "صيرفة" من السوق

بالأرقام تبيّن ميزانية مصرف لبنان عن النّصف الثاني من شهر نيسان الفائت، أنّ إجمالي حجم الدولارات على منصة "صيرفة" بلغ 686.85 مليون دولار في الأسبوعين الأخيرين من الشهر. بينما انخفضت الأصول الأجنبية لمصرف لبنان بمقدار 39.8 مليون دولار فقط خلال نفس الفترة. وعليه إذا كان مصرف لبنان البائع الأوّل للدولار على المنصّة لا يصرف من الاحتياطي أو التوظيفات، فمن أين يؤمّن الدولارات؟

تحليل الأرقام يأخذنا باتجاه فرضية مفادها أنّ "مصرف لبنان فتح حسابا ًبالعملة الأجنبية منذ إطلاق التعميم 161، يضع فيه ما يشتريه من دولارات من السوق الموازية"، يقول خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. "وهو يتدخل من هذا الحساب حصراً لتمويل رواتب وأجور موظفي القطاع العام بحسب التعميم 161. ويسجل الفرق بين السعر المعتمد على منصة صيرفة 86300 ليرة، وسعر بيع الدولار للموظفين (60 ألف ليرة عن شهر أيار) كدين على الدولة اللبنانية. ولا نعلم على وجه الدقّة كيف يسجّل الفرق بين سعر صيرفة وسعر السوق الموازية". وبذلك لا يدفع المركزي الدولارات من أموال المودعين، ولا من أي أصول أخرى. ولا يظهر بالتالي تراجع أصوله بنفس نسبة ضخّ الدولارات على منصة صيرفة، والتي وصلت في شهر نيسان إلى حدود 1.3 مليار دولار. وبحسب فحيلي فإنّ "ما ينفقه المركزي من التوظيفات الإلزامية، التي يتوقّع أنّها لم تعد تتجاوز 9 مليارات دولار، هو لتمويل السحوبات بحسب التعميمين 151 و158. والدّليل أنّ مصرف لبنان سبق وأعلن قبل مدة أنّه غير مديون للمصارف وأنّه سدد متوجّبات البنوك التجارية عليه".

أمام هذا الواقع يظهر أنّ المركزي بوصفه البائع الأكبر للدولار على منصّة صيرفة، هو من يحدّد سعر صرف الدولار بوصفه الشاري الأكبر من السوق أيضاً. وقد أتاحت له الظروف مسك خيوط لعبة العرض والطلب. خصوصاً مع إحجام نسبي للتجّار عن شراء الدولار من السوق الموازية لسببين أساسيين:

- الأول، يتعلّق بتراجع الطلب على الاستيراد بسبب امتلاء مخازن الشركات بكميّات كبيرة من البضائع ولاسيّما المعمّرة والمرتفعة الثمن، والتي كانت قد استوردتها في العام 2022 تحسّباً من رفع الدولار الجمركي.

- الثاني، دولرة الأسعار ما أتاح وصول الدولار مباشرة، وبنسبة لا تقلّ عن 60 في المئة، إلى أيادي التّجّار. فانتفت حاجة شراء الدولار من الأسواق.

إنطلاقاً من هذه المعطيات يعتبر فحيلي أنّ "المركزي لم يعد يربط بين حجم الكتلة النقدية الموضوعة بالتداول بالليرة، والتي بلغت ما يقارب 67.5 ترليون ليرة بحسب الميزانية المنشورة، وبين نسبة التضخم. وهذه الليرات تساعده على إعادة تدوير الدولار من السّوق إلى المنصّة ومن الأخيرة إلى السّوق.. وهكذا دواليك. وهذه هي "قواعد الاشتباك" التي يعمل مصرف لبنان بموجبها".

الألعاب المحاسبية

امتلاك مصرف لبنان حصرية إصدار النقد، يسمح له الاستفادة ممّا يعرف بـ seigniorage أي تحقيق ربح من الفرق بين القيمة الإسمية للعملات وتكاليف إنتاجها. ولنفترض أنّ المركزي يدفع كلفة طباعة ورقة المئة ألف ليرة بـ 0.06 سنت، فهو يشتري بها 1 دولار من السوق الموازية. إي أنّه يربح أكثر من 99 سنتا بكل 100 ألف ليرة يطبعها. و"في هذه الحالة تتحول طباعة الليرات التي تدور باستمرار في صيرفة إلى عنصر مفيد للمركزي"، من وجهة نظر فحيلي. ما يساعد على تمويل النفقات التشغيلية للدولة اللبنانية. لكن السؤال هل تسجّل الأرباح لصالح مصرف لبنان أم لصالح الخزينة؟ وكيف تصفى الحسابات بين بعضهما البعض؟

الاستقرار الذي يشهده سعر الصّرف مؤخّراً، دفع ثمنه المواطنون 63 ضعفاً في أقل من 4 سنوات. خسروا خلالها 98 في المئة من قوّة أجورهم الشرائية.

حيث انخفض سعر الصرف من 1500 ليرة إلى 95 ألف ليرة. وهو يترافق مع خسارة الاقتصاد أكثر من نصف حجمه. إذ يقدر البنك الدولي أن يكون الناتج المحلّي الإجمالي قد انخفض من حدود 54 مليار دولار في العام 2019 إلى أقل من 22 مليار دولار راهناً. وفقدان المودعون 85 مليار دولار من أموالهم في المصارف. وهو يتزامن مع استمرار تدفق التحويلات الخارجية بأكثر من 7 مليارات دولار سنوياً. وفرض الإدارة الضريبية قيوداً على الاستيراد، من خلال رفع الدولار الجمركي راهنا إلى 60 ألف ليرة، على أن تبدأ باحتسابه على أساس صيرفة في الأيام القليلة المقبلة. كلّ هذه المؤشّرات بالاقتصاد الكلي تفسّر أنّ كلفة المطبّات التي زرعت للوصول إلى معادلة الاستقرار في سعر الصرف، هذا إذا سلّمنا جدلاً بثباتها، كانت باهظة. والأخطر أنّها أتت على حساب متانة "مركبة" الاقتصاد وصلاحيتها للقيادة مستقبلاً.