يشبّه خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي ودائع العملة الأجنبية في المصارف اللبنانية بـ "الأجبان الموضوعة في ثلاجة قُطع عنها التيار الكهربائي". وكما تتعفن الأخيرة وتفوح منها الرائحة الفاسدة، تصبح الودائع غير قابلة للاستعمال. لا بل أكثر من ذلك، تمثّل السحوبات منها بحسب التعميم 151 استسلاماً لعبثية اللاحلول المتّبعة، وخسارة فادحة قاربت راهناً 84 سنتا بكل دولار، "تُسمم" حرفياً القدرة الشرائية للمودعين.
مع توقف المصارف عن "تقطير" المودعين الدولارات النقدية في بداية الأزمة، أصدر مصرف لبنان في الواحد والعشرين من نيسان 2020 التعميم 151. وقد نصّ باختصار في مادّته الأولى على تسديد السحوبات بالدولار أو بغيرها من العملات بالليرة على سعر صرف 2600 ليرة لكل دولار. وهو ما عُرف بـ "اللولار". وقتها كان سعر الصّرف في السوق الموازية يعادل 3000 ليرة. ما يعني أنّ المودع كان يخسر 13 سنتاً بكل دولار يسحبه. أو بعبارة تقنية أخرى فإنّ نسبة "الهيركات" كانت توازي 13 في المئة. وقد ترك المركزي للمصارف حرّيّة تحديد سقوف السحب لكلّ عميل. بعد أقلّ من شهرين رفع المركزي سقف السحوبات إلى 3900 ليرة فيما وصل سعر الصرف إلى 10 الاف ليرة في شهر تموز 2020، فأصبح الهيركات حوالي 60 في المئة. صمد المركزي على هذا الرقم لغاية نهاية العام 2021، حين رفع في كانون الأول قيمة تسديد السحوبات من حسابات الدولار إلى 8000 ليرة، بحد أقصاه 3000 دولار أميركي للحساب الواحد، فارتفع سعر الصرف الحقيقي من 25 ألف ليرة وصولاً إلى 40 ألف ليرة في 27 أيار 2022. وفي 20 كانون الثاني رفع المركزي سعر الصرف للمرّة الرابعة إلى 15 ألف ليرة، بسقف 1600 دولار، فارتفع سعر الدولار في السوق من 50 ألف ليرة إلى 130 ألف ليرة في آذار 2023.
السحوبات على 35 ألف ليرة؟
اليوم ومع اقتراب انتهاء مفعول العمل بالتعميم 151 في نهاية حزيران، بدأت "المطابخ" النقدية بتسويق حتمية تجديد التعميم، مع إمكانية رفع سقف السحوبات من حسابات الدولار إلى ما بين 30 و35 ألف ليرة لكل دولار. وهو الأمر الذي يخفّض الهيركات من حدود 84 في المئة إلى 63 في المئة؛ هذا إن بقي سعر الصرف في السوق الموازية 95 ألف ليرة. الغاية المباشرة من التسويق المبكر لرفع سقف السحوبات تتمثل في المساهمة بتقليص الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من الأسواق، و"وضع كتف"، مع مصرف لبنان في تجفيف الليرات قدر المستطاع للحدّ من المضاربة على الدولار"، بحسب مصادر مصرفية. "وهذا ما شهدناه بالضبط في المرحلة التي سبقت رفع سقف السحوبات من 8000 ليرة إلى 15 ألفا. حيث أحجم الكثير من المودعين عن سحب حصّتهم الشهرية (1600 دولار) من حساباتهم بانتظار رفع السقف. الأمر الذي أدى إلى تقليص كتلة الليرات "المفلوشة" في السوق. فأتت النتيجة عكسية، ولم "يتهنا" المودعون بالإجراء لسببين:
- ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية أضعافاً مضاعفة، وفقدان الأموال المسحوبة لقوتها الشرائية.
- تقليص المصارف للمدفوعات النقدية. حيث عمدت أغلبية المصارف إلى تسديد 600 دولار على سعر 15 ألف ليرة، تعادل 6 ملايين ليرة، نقداً ووضعت الألف دولار المتبقية التي تعادل 15 مليون ليرة في بطاقات المشتريات.
"هرطقة" نقدية
ربّ قائل إنّ رفع سقف السحوبات لن يؤثّر، خصوصاً أنّه يترافق مع تخفيض سقف السحوبات. هذا الرّأي الذي أثبت التطبيق للتعميم 151عدم صحته ماضياً، يترافق حاضراً مع عدم القدرة على النزول أكثر تحت سقف 1600 دولار. خصوصاً في ظلّ الارتفاع الهائل في الأسعار، وعدم كفاية المبلغ لتمويل فاتورة الاستهلاك، أقلّه، فما بالنا في بقية المتطلّبات. وبالتالي فإنّ رفع سقف السحوبات يعني طباعة مضاعفة لليرات لتمويل السحوبات"، برأي الخبير المصرفي نيكولا شيخاني. "وبالتالي حتمية تحوّلها إلى الدولار بشكل مباشر عند الصرّافين، أو من خلال شراء السلع والمنتجات وبالتالي خلق المزيد من الطلب على الدولار". أمّا في ما يتعلّق بوضع السقوف على السحوبات فيصفها شيخاني بـ: "الهرطقة النقدية". ولاسيّما أنّ أغلبية المتاجر ترفض الدفع بالبطاقات. ومن يقبل بها منها، فبنسبة لا تتجاوز 50 في المئة بأحسن الأحوال. فتخرج أموال المودعين بهيركات يتراوح بين 60 و85 في المئة من الحسابات الملولرة، لتعلق مرة جديدة بالبطاقات، فلا هم يستفيدون ولا أموالهم تحافظ على قيمتها.
الأمور تزداد سوءاً
أخطر ما في هذه التعاميم هو تدجينها للمودعين، الذين أصبحوا ينتظرون الحصول على فتات أموالهم. في حين أنّ جزءاً ليس قليلاً من هذه الأموال كان يجب أن يكون محميّا. فخطّة لازارد التي وضعت في أيام حكومة الرئيس حسان دياب حمت الودائع لغاية 500 ألف دولار. أي أنّ كل وديعة لغاية هذا الرقم، تُأخذ كاملة بالدولار النقدي من دون أي تغيير. ومن بعدها تراجع المبلغ إلى 100 ألف دولار في حكومة الرئيس ميقاتي، من دون أن تحدّد بشكل واضح إن كان المبلغ الذي ستُقبض به بالدولار النقدي أو بالليرة بحسب سعر السّوق، كما لم تُحدِد المهلة الزمنية. من دون أن تستبعد المصادر المصرفية أن نستفيق غدا على خطة جديدة تخفض المبالغ المحميّة. وذلك بهدف ليلرة الودائع على الرغم من كلّ ما تسبّبه من أخطار على المودعين والاقتصاد.