تحت حجّة الظروف الاستثنائية، تحاول الحكومة تمرير قرارات مصيرية إشكالية. "تتسلل" خلف دفاعات السّلطة التشريعية، والجهات الرقابية المحلية والدولية لتهزّ "شباك" النظام المالي والنقدي بأهداف خبيثة. فإذا احتسبت، اكتسبت الحكومة ثواب المُحرجين من النواب باتخاذ القرارات غير الشعبوية. أمّا إذا رفضت فلا شيء تخسره مع توالي الخيبات التي لا تعدّ ولا تحصى.
تضمن جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة الذي عقد في 18 نيسان 2023 قرارين إشكاليين.
- الأول يتعلق بدولرة الضرائب والرسوم.
- والثاني بتفويض مصرف لبنان تطبيق "الكابيتال كونترول".
بـ "جرّة قلم" شرّعت الحكومة احتساب الرسوم على الإشغالات العمومية على الشاطئ بدولار السوق الموازية. وفوّضت مصرف لبنان اتخاذ الاجراءات الضرورية والمناسبة لإلزام المصارف بسقف السحوبات المتاحة للمودعين (سحباً وتحويلاً) وفقاً للتعاميم ذات الصلة. مع عدم إعطاء أولوية لوديعة دون أخرى أو على أي التزام آخر بالعملة الأجنبية مهما كان نوعه أو مصدره. والاستمرار بمنح عملائها حرية التصرف بالأموال الجديدة (fresh).
الدولرة على الطريق
"القراران من اختصاص السّلطة التشريعية، ويجب أن يصدرا بقوانين وليس بمراسيم مشاريع"، تؤكد النائبة في تكتل الجمهورية القوية الدكتورة غادة أيوب، هذا من حيث الشكل. أما في المضمون فإنّ القرار بـ "تعديل أسس احتساب سعر المتر المربّع لتحديد الرّسم السنوي المترتّب على الإشغال المؤقّت للأملاك العمومية البحرية"، يمسّ بسيادة الدولة، ويطرح تساؤلات جدّية عن نيّة السّلطة التنفيذية بالمحافظة على العملة الوطنية، وبسط سلطتها على كامل مرافقها العمومية. وقد نصّ الدستور اللبناني بوضوح على عدم جواز فرض أي ضريبة أو رسم إلّا بقانون. فكيف إذا كانت هذه الضرائب والرسوم تفرض بعملة غير العملة الوطنية، أي الدولار".
من هنا تقول أيوب إنّ "فرض الضرائب والرسوم بغير العملة الوطنية يتطلب إدخال تعديلات على القوانين، التي منها قانون النقد والتسليف. وساعتذاك نكون نتخلّى عن كل المفاهيم والسياسات النقدية التي تقوم عليها الدولة. ويصبح للبنان عملة غير الليرة اللبنانية المنصوص عليها بالقوانين والمغطاة بالذهب. وهو ما يتطلب لاحقاً إدخال التغييرات بكل بنية الدولة المالية المتعلقة بالموازنة العمومية". إلّا أنّ هذا الافتراض لا ينفي من وجهة نظر أيوب المخاطر التي قد تلحق بالاقتصاد نتيجة التخلّي عن العملة الوطنية، والذي بدأ يتجلّى بصورة واضحة من خلال دولرة الضّرائب والرسوم. "ما يشكّل ضربة قاصمة لقانون النّقد والتسليف المبني أساساً على أنّ العملة الوطنية محمية بالذهب ولديها قوّة إبراء. ونكون بذلك نأخذ منحى مختلفاً كلياً".
ما تظهّر فاقعاً في مرسوم دولرة الرّسوم على الإشغالات البحرية، تمتدّ جذوره إلى نهاية العام 2020. ففي 31 كانون الاول 2020 أصدرت وزارة المالية القرار الشهير 893 الذي ألزم المؤسسات باحتساب الضريبة على القيمة المضافة المحددة بـ (11%) على السلع المسعّرة بالدولار، على سعر صرف السوق الموازية. وقد جرى وقتها تقديم طعن من قبل ناشطين في محاربة الفساد أمام مجلس شورى الدولة. إلّا أنّه لليوم لم يصدر أيّ قرار عن المجلس.
عفا الله عما مضى
القرار الثاني المتّخذ في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، والذي لا يقلّ خطورة عن دولرة الرسوم كان القرار 22 المتعلق بـ "الطلب من المصرف المركزي اتخاذ الاجراءات الضّرورية والمناسبة لإلزام المصارف بسقف السحوبات المتاحة للمودعين (سحباً وتحويلاً) وفقا للتعاميم ذات الصلة. وعدم إعطاء أولوية لوديعة على أخرى، أو على التزام آخر بالعملة الأجنبية مهما كان نوعه أو مصدره. والاستمرار بمنح عملائها حرّية التّصرّف بالأموال الجديدة". وإن كانت المصارف تمارس "كابيتال كونترول مقنّعاً واستنسابياً، بتغطية من مصرف لبنان، فإنّ القرار 22 يشرّع الخطأ من دون وجه حق تقول أيوب. "وقد فضح الوزراء أنفسهم عندما عللوا الأسباب الموجبة لاتخاذ هذا القرار (القانون) بـ: "تأخّر مجلس النّواب بإقرار القانون، فأخذنا هذا الدور استثنائياً". وإذا كان برأيهم القرار منطقياً ومبرراً فـ "لماذا دأبت الحكومة على تحويل مشروع القانون إلى مجلس النّواب، ولم يتّخذوا القرار في وقت سابق؟" تسأل أيوب، لتستنتج أن هناك نهجاً حكومياً لأخذ الدور التشريعي والتفويض التشريعي بطريقة مخالفة للدستور القوانين، من دون أن يحرّك مجلس النواب ساكناً. ولعلّ هذا أخطر تجليات الانهيار.
وبحسب معلومات خاصة فإنّ إقرار "كابيتال كونترول" مشوّهاً، كان نتيجة الوعد الذي قطعه رئيس الحكومة للمصارف لحمايتها من دعاوى المودعين للحصول على أموالهم، مقابل فك إضرابها الذي طال لأكثر من أسبوعين متواصلين في آذار الفائت. و"الخطير بقرار الحكومة أنّه لا يحمل مفعولاً رجعياً، وكأن بها تقول "عفا الله عما مضى".. فهي تصدّق من جهة على تعاميم مصرف لبنان، وتبرّئ من الجهة الثانية الذين حوّلوا أموالا إلى الخارج في عز الأزمة.
الخيار الأقل إحراجاً
من جهته قال الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي د. طالب سعد إنّ "العلاقة المتماهية والسهلة والسريعة لاتّخاذ القرارات بين السلطة التنفيذية ومصرف لبنان أصبحت واضحة. وهي تعكس توجهات السّلطة السياسية والأهداف التي تريد أن تحقّقها". معتبراً أنّ "القرار 22 كان الطّريق الأسهل لتحقيق الأهداف، من العبور في المجلس النيابي وفتح الكثير من الأبواب المغلقة على أنفسهم. ولاسيما في ظلّ التناقضات والعقبات الموجودة في بعض الكتل النيابية التي تجرّب أن تظهر حرصها على المصالح الخاصّة للمواطنين. فكان تشريع الكابيتال كونترول في مجلس الوزراء ما بين توصيات حكومية وقرارات المصرف المركزي الخيار الأقلّ إحراجاً".
مرّة جديدة يتأكّد أنّ إدارة الأزمة أسوأ بما لا يقاس من الأزمة بحدّ نفسها. فكلّ ما يُتّخذ من قرارات، ويُطبّق من إجراءات، ويُهمل من دراسات وتوصيات... هدفه واحد: "كسب الوقت"، بانتظار حلّ معلّب خارجياً، يبدو أنه لن يأتِ قريباً.