خالد أبو شقرا
بسيطة هي المشاكل في نظر المسؤولين اللبنانيين. ليس جرياً على قول المتنبّي في عجز بيت شعره الشّهير "وتَصغرُ في عين العظيم العظائم"، بقدر ثقتهم العمياء بإدارة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للانهيار. "الحاكم فهم اللعبة النقدية صح، وهو يتفنّن بدفع الدولارات وإعادة شرائها على منصة صيرفة"، يقول أحد كبار المسؤولين جهاراً. "المر الذي سيسمح بإعطاء الزيادة لموظفي القطاع العام بالدولار، من دون ترك أي أثر على التضخم".
المعادلة التي ستكرّسها الحكومة في جلسة بعد ظهر اليوم الثلاثاء المخصصة للبحث في معالجة تداعيات الأزمة المالية على سير المرفق العام، ستقوم على ثلاث ركائز:
- رفع الدولار الجمركي من 45 ألف ليرة إلى 60 ألف ليرة ابتداء من صباح اليوم الثلاثاء الواقع فيه 18 نيسان 2023 ولغاية نهاية الشهر. على أن تبدأ المالية باحتساب الرسوم الجمركية على أساس سعر صيرفة مع بداية أيار المقبل.
- إعطاء الزيادة للموظفين بالدولار بقيمة تتراوح بين 100 و350 دولاراً. على ألّا تتدنى رواتب من هم في الخدمة الفعلية عن 8 ملايين ليرة ولا تزيد عن 60 مليوناً. ورفع بدل النقل من 95 ألف ليرة إلى 400 ألف ليرة.
- الاعتماد على حاكم مصرف لبنان في تأمين الدولار عن طريق إعادة شرائه من السوق الموازية.
الإنكار الكبير
اللافت في ترداد أحد المسؤولين هذا السيناريو الخطير أمام جمع من الصحافيين، اقتناعه التام بصحته. وتأكّده من أنّ سعر الصّرف لن يتخطّى عتبة المئة ألف ليرة من جديد. واقتناعه أن هذا يتطلّب توقّف بعض الاقتصاديين والصحافيين "المأجورين"، أو الذين لا يفقهون شيئاً في علم الاقتصاد وفنّ إدارة القطع، عن "النفخ في نار" أزمة الدولار، وإطلاق أرقام عشوائية عن ارتفاعات لا سقف لها أو غير محدودة.
قد يكون المسؤول معذوراً، إذا افترضنا عن حسن نيّة، حرصه على بثّ التفاؤل في واحدة من أدقّ المراحل التي يمرّ بها البلد. إلّا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تبسيط الأمور بهذا الشكل، المترافق مع الحديث عن "الانجازات" المحقّقة طوال فترة العامين الماضيين، يخدم التعافي؟ أليس الفشل الذريع في إدارة الانهيار الذي أكّدت عليه تقارير أرفع المراجع الدولية، من صندوق النقد إلى البنك الدولي، وصولاً إلى مؤسسة التمويل الدولية، وشركات التصنيف الائتماني.. كان أكبر بما لا يقاس من الأزمة بحدّ نفسها؟!
في جميع الحالات فلنبحث مع الباحثين في الأرقام عن تداعيات الزيادات على الرواتب المترافقة مع رفع الدولار الجمركي إلى معدّلات قياسية في ظلّ الإبقاء على سعر الصرف الرسمي 15 ألف ليرة.
يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال أنّه "في ظلّ الاعتماد الكبير على الاستيراد لتأمين أبسط متطلّبات الحياة، فإنّ أيّ زيادة في المداخيل ستنعكس طلباً على الدولار من أجل تمويل الاستيراد. وفي ظلّ الشحّ الواضح في كمية الدولارات الموجودة في الداخل، بالقياس مع الحاجات، فإنّ هذا يعني ارتفاعاً في سعره مقابل الليرة اللبنانية التي ما زالت تشكّل مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 70 في المئة من اللبنانيين". وبحسب رمّال فإن "الاستيراد من الخارج يعتبر حاجة حتى بالنسبة للصناعات الوطنية. فهذه الأخيرة تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد المواد الأولية من الخارج. خصوصاً في ما يتعلّق بالنايلون واللدائن والمواد العضوية... وغيرها الكثير من المكونات الصناعية".
صيرفة مؤقتة
أما في ما يتعلّق بدفع الزيادات على الرواتب بالدولار من خلال منصّة صيرفة، فإن هذه العملية غير مستدامة، وهي تحمّل المركزي خسائر فرق سعر الصّرف. وعليه فإن "الرهان على صيرفة وقتي، طالما لا يوجد انسيابية للتّصرف بالدولارات كما يشتهي مصرف لبنان للتدخل في سوق القطع، وفي ظلّ نقص الدولار من السوق لتمويل الاستيراد والاستهلاك وتلبية حاجات الدولة. فزيادة حاجات الدولة بالليرة كرفع الرواتب مثلا، "تنعكس زيادة موازية بحاجتها للدولار وهي تموّل من السوق الموازية عبر منصّة صيرفة"، يؤكد رمال. وعندما تحتدم المنافسة على ما تبقى من دولارات في السوق الموازية بين مصرف لبنان من جهة والمصارف والمستوردين من جهة ثانية سيعود الدولار ليحلّق من جديد".
الدولار الجمركي يفاقم مخاطر التضخّم
من الجهة الأخرى سيؤدّي رفع الدولار الجمركي إلى زيادة التضخّم في مختلف أسعار المواد الاستهلاكية، حتى تلك المعفية من الرسوم كالمواد الغذائية. فإذا كان أغلبية المكوّنات التي تدخل في تكاليف صناعة الخبز العربي كالقمح والسكّر والخميرة معفاة من الرسم الجمركية، فإن غلاف النايلون والربطة التي تربط بها ربطة الخبز، والسيارات المخصّصة وقطعها ومصابيح الإنارة في الأفران.. وغيرها العديد من الوسائط الضرورية للإنتاج مفروض عليها رسوما جمركية. وبحسب رمال فإن "احتساب الرسم الجمركي على أساس 60 ألف ليرة راهناً، وعلى سعر صيرفة مستقبلاً، سيزيد الأسعار بمتوسط 3 في المئة إضافية على أقل تعديل". والمشكلة الأكبر برأيه أنّ "من سيدفع هذه الرسوم هي المؤسسات المنضبطة والقانونية، فيما 60 في المئة من المؤسسات غير الشرعية ستُدخل بضائعها تهريباً أو تزويراً، فلا تتحمّل أي أكلاف تذكر". في المقابل ستؤدي زيادة الرسوم الجمركية إلى عودة الدولار إلي الارتفاع، وبالتالي إلى تآكل الزيادات. و"سنبقى مع ضريبة مباشرة على الاقتصاد الشرعي. ولاسيما بالنسبة للسلع المعمّرة وذات القيمة المرتفعة، التي لم تعد تعتبر من الكماليات".
بمعادلة بسيطة سيؤدي مثلّث السلطة "الترقيعي" إلى عودة سعر الصرف إلى الارتفاع ونقص في كتلة الدولار وتآكل الزيادات في وقت ليس ببعيد. وستساهم كتلة التضخّم المستحدثة بزيادة الضغط على الاقتصاد وتكبير حجم المشكلة. وأبسط دليل على ذلك بحث مجلس الوزراء في مشروع قانون لتعديل المادة ٥ من قانون النقد والتسليف من أجل طباعة عملة لبنانية من فئات أكبر من 100 ألف ليرة، يتوقع أن تكون فئتا الخمسمئة ألف والمليون ليرة"، يقول رمال. هذا عدا عن أن رفع صيرفة إلى حدود 90 ألف، يعتبر إشارة واضحة على أن سعر الصرف الرسمي المستقبلي لن يقل عن هذه القيمة".
قبل يومين صدر عن البنك الدولي تقريراً نشرته الفايننشل تايمز، يفيد بأن لبنان احتل المرتبة الأولى عالمياً بين الدول الأكثر تضرراً من تضخّم أسعار المواد الغذائية للفترة الممتدة بين كانون الأول 2022 وآذار 2023. وقد تقدم لبنان على زيمبابوي في نسبة تضخم الغذاء بنسبةٍ بلغت 261 في المئة، في حين لم تتجاوز نسبة تضخم أسعار الغذاء في زيمبابوي 137 في المئة.
في الموازاة هبطت العملة اللبنانية إلى المرتبة الثالثة على قائمة أرخص العملات حول العالم. فمن بعد البوليفار الفنزولي الذي يساوي مليون 552 ألف و540 بوليفار مقابل الدولار، حلّ الريال الايراني بسعر صرف 229500 ريال مقابل الدولار، لتعقبهما الليرة اللبنانية بسعر صرف 97 ألفاً مقابل الدولار. هل هذه المؤشرات مختلقة إعلامياً أيضاً، أم أن الإدارة السياسية مسؤولة عنها؟!