خالد أبو شقرا
تُهدَّد الإجراءات الهادفة إلى الحدّ من تداعيات الأزمة المالية على سير المرفق العام الحكومة، بأن "تطلع من مولد" زيادة الرواتب "بلا حمّص" إعادة سير انتظام العمل في المؤسسات. فالزيادات الزهيدة، وإن أقنعت الموظفين بفكّ الإضراب، فلن تلبث أن تذوب بـ "آتون" التضخم، لتصبح مرّة جديدة من دون أي قيمة. وذلك على غرار كل المساعدات الاجتماعية التي أعطيت بمراسيم حكومية في بداية الأزمة، ومضاعفة الرواتب ثلاث مرات التي أقرّتها موازنة 2022.
يبشّر جميع الوزراء المشكّلين لخلية متابعة أزمة القطاع العام، أنّ الزيادة على الرواتب ستكون "مِحرزة". إلّا أنّ منسوب أمل الموظفين يتقهقر سريعاً، بمجرد نطق أصحاب الحلّ والربط أنّ الزيادات ستكون بالليرة اللبنانية، وغير مربوطة بسعر صرف مرتفعٍ وخاص على منصة صيرفة. ولنفترض أنّ الزيادة ستكون عبارة عن إعطاء 4 رواتب إضافية كما سُرّب من اجتماع الخليّة، ليصبح مجموع إجمالي ما يتقاضاه الموظف 7 رواتب. فهذا يعني أنّ أساس راتب الموظف من الفئة الخامسة الذي يبلغ 1.3 مليون ليرة سيصبح بحدود 9 ملايين ليرة. فيحول على صيرفة على سعر 86700 فتصبح قيمته 104 دولار. فيما تصبح قيمة الراتب لموظفي الفئة الاولى 43 مليون ليرة، أو 500 دولاراً على سعر صيرفة. فهل يمكن لمثل هذا الراتب أن يعيل أسرة مؤلفة من أربعة أفراد ويلبّي متطلّبات الكهرباء والصّحّة والتعليم والاستشفاء؟"، يسأل أحد أعضاء رابطة موظّفي القطاع العام.
الحد الأدنى لكلفة معيشة الاسرة
الجواب على أسئلة الموظّفين لم يتأخر. إذ قدّرت "الدولية للمعلومات" في دراسة حديثة، كلفة المعيشة الراهنة لأسرة متقشّفة من دون الصّحّة والاستشفاء بـ 39 مليون ليرة شهرياً في القرى، و77 مليون ليرة في المدينة. ما يعني أنّ رواتب موظفي الفئة الاولى، كالمدراء العامين وأساتذة الجامعة اللبنانية والسفراء والجنرالات... لا تكفيهم للعيش بتقشّف، حتى بعد الزيادات. في حين أنّهم كانوا يشكّلون المدماك الأساسي للطبقة الوسطى قبل أربع سنوات.
تُظهر دراسة الدولية للمعلومات أنّ أرقام الكلفة الأدنى، مبنية على عصر النفقات. فهي لم تحتسب "كلفة المياه التي لا تصل إلى المنازل في فصلي الصيف والخريف". وهذا هو حال معظم اللبنانيين الذين يضطرون لشراء صهاريج مياه للاستعمال بكلفة 500 ألف ليرة لكلّ 5 براميل، تكفي بالحدّ الأقصى لمدّة أسبوع. ولا تقلّ تكلفة شراء مياه الشفّة عن 300 ألف ليرة اسبوعياً، بمعدّل 3 غالونات سعة 16 ليتراً. احتسبت الدراسة التّعليم على أساس كلفته في المدرسة الرسميّة، التي تكون قريبة من مكان السّكن، أي من دون احتساب كلفة النّقل، واعتبار أنّ التنقّل يتمّ سيراً على الأقدام عندما يمكن ذلك. أمّا بخصوص السلّة الغذائيّة، فقد جرى احتساب الحدّ الأدنى من كلفة الطّعام باعتبار أنّ الأسرة قد تناولت طيلة الشهر البيض، بمعدل 6 بيضات للفرد يوميّاً، فتصل الكلفة إلى 11 مليون ليرة شهريّاً، يضاف إليها الخبز بكلفة 1.5 مليون ليرة، وجرّة الغاز بكلفة 1.1 مليون ليرة. وفي ما يتعلق بالصّحّة فلم تعتمد أيّة كلفة في الدّراسة، مع العلم أنّه في حال اضطر أحد أفراد العائلة للدخول إلى المستشفى فإنّ الكلفة ستكون باهظة. واعتمدت الدّراسة لتحديد الحدّ الأدنى للكساء، باحتساب شراء الملابس والأحذية من المحلّات الشعبيّة الرخيصة، أو من محلّات بيع الألبسة المستعملة التي تكاثرَ انتشارها في الفترة الماضية.
أمام هذا الواقع يظهر بوضوح بحسب الأرقام، أنّ كلفة المعيشة زادت من تشرين الأوّل 2022، ولغاية نيسان 2023 بنسبة تراوحت بين 95 و196 في المئة. مرتفعة في ظرف نصف عام فقط، من حدود 20 - 26 مليون، إلى ما بين 39 و77 مليون ليرة.
تمويل الزيادات
العقدة الأخرى التي لا يقلّ حلّها صعوبة تتمثّل بكيفية تأمين الأموال لهذه الزيادات. و"هذا هو السبب الأساسي للتأخّر في إقرارها"، بحسب مستشار رئيس الحكومة الوزير السابق نقولا نحاس. "فالبحث كان يتركز طيلة الفترة الماضية على كيفية تأمين التّمويل للزيادات من إيرادات الدولة، وليس من خلال طباعة النقود في مصرف لبنان. لانّ أيّ تمويل من الطباعة سينعكس تضخّماً ومزيداً من الارتفاع في الأسعار. وذلك على عكس التّمويل من الضرائب والرسوم وخدمات الدولة". وقد وضعت بحسب نحّاس جميع الطروحات على طاولة البحث، وخلصت إلى حلّين منطقيين، هما:
- عدم تمويل أي زيادة من طباعة النقود.
- عدم زيادة الضرائب والرسوم، إنما استيفاؤها بقيمتها الحقيقية وتحفيز المكلّفين على دفعها.
ويكفي من وجهة نظر نحّاس "توحيد سعر الصّرف واستيفاء الرسوم الجمركية (الدولار الجمركي) على سعر الصّرف الحقيقي، وليس على أسعار الصّرف المعمول بها حاليا أي 15 أو 45 ألف ليرة، لتمويل هذه الزيادة". كما علم بحسب ما يتداول من حلول أنّ هناك اتجاهاً لاحتساب الضّريبة على القيمة المضافة على مختلف السلع والمنتجات على سعر صرف منصة صيرفة.
مخاطر التضخّم ماثلة
الترحيب من قبل الاقتصاديين بعدم تمويل الزيادات من طباعة الليرات، قابله تشكيك بقدرة الدولة على تمويل الزيادات من خلال رفع قيمة الرسوم والضرائب. فنحو 60 في المئة من الاقتصاد يعمل في "الأسود"، أي انه اقتصاد غير نظامي، لا يصرّح للمالية بحجم أعماله ولا يسدّد الضرائب. أما الاتجاه إلى احتساب الرسوم الجمركية، أو ما أصبح يعرف بالدولار الجمركي، على أساس سعر صرف السوق أي 98 ألف ليرة فسيقلّل الاستيراد بشكل كبير وسيزيد من الجهة الثانية نسبة التهرّب والتهريب خصوصاً في ظل ضعف أجهزة الرقابة.
في جميع الحالات فإن الزيادة بالليرة اللبنانية ستشجّع الاستهلاك، وبالتالي ستزيد الطّلب على الدولار بشكل مباشر وغير مباشر، مما يؤدّي إلى عودته إلى الارتفاع، وبالتالي امتصاص كل الزيادات المحقّقة على الرّواتب والأجور في وقت ليس ببعيد.