خالد أبو شقرا

بعدما حلّت جلسة التوقيت الصّيفي في 27 آذار الفائت، مكان الاجتماع الحكومي الذي كان مخصّصاً لإقرار الزيادات على رواتب الموظفين، توقّف الزمن في القطاع العام. فالعقدة لم تعد محصورة بـ "حرد" رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن عقد المزيد من الجلسات، إنما تخطّتها إلى شبه إجماع على مخاطر إعطاء زيادات بعشرات آلاف مليارات الليرات من خارج الموازنة. وفي ظلّ الإصرار على عدم عقد جلسات تشريعية قبل انتخاب رئيس للجمهورية، فهناك استحالة لإقرار الموازنة، حتّى ولو أنجزتها وزارة المالية.

بهذه البساطة المعقّدة بحسابات سياسية أبعد ما تكون عن الحسّ بالوطنية، حوّلت المنظومة الاقتصاد عامّة، وحياة أبنائها خاصّة إلى لعبة تنس الطاولة Ping-Pong. وهي تستمتع بتقاذف "طابة" معيشتهم بمضاربها السميكة، فوق خروم شبكة مصالحها الضيقة. أما القلّة القليلة منها، الصادقة مع نفسها، من أمثال نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، فتطرب الأذن لتشديدهم على "ضرورة مقاربة مسألة الرواتب من زاوية الموازنة ككلّ. لأنّ أيّ زيادة في العجز من دون إيرادات ستؤدّي إلى تمويله بطباعة الليرة. وبالتالي الضغط على سعر الصرف والمزيد من التضخّم والدخول مجدداً في حلقة مفرغة". ولكن سرعان ما "تذهب سكرة" الكلام المنطقي، لتحلّ مكانها "فكرة" السؤال عن مصير موازنة 2023. وهل حقاًّ من مصلحة السلطة وضع موازنة متوازنة، تؤمّن إيراداتها من خارج جيوب ما تبقّى من مواطنين "أوادم"، ومؤسسات غير مخالفة؟

تحديات موازنة 2023

تواجه موازنة 2023 تحدّيان أساسيّان:

الأوّل، هو مخالفتها للدستور وتخطيها المهل القانونية التي وضعت أساساً لضمان فعاليتها. فموازنة 2023 كان يجب أن تُرفع إلى مجلس النواب مع بداية عقد تشرين العادي. وهو العقد الذي يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول، وتُخصّص جلساته للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر، وتدوم مدّة هذا العقد إلى آخر السنة. وعلى الرغم من مرور ما يقرب من النصف عام، فإنّ الموازنة لم تخرج بعد من وزارة المالية.

الثّاني عجز السلطة الفاضح عن تأمين الايرادات من مصادر الهدر الرئيسية كالتّهرّب والتّهريب اللذان أصبحا يشكلان أكثر من 60 في المئة من حجم الاقتصاد. واستسهالها فرض المزيد من الرسوم والضرائب غير المباشرة التي تطال الشرائح الأكثر ضعفاً من المجتمع، وتحييد أصحاب الثروات من مهرّبين ومحتكرين و"تجار الشنطة". فـ "الموازنات توضع بطريقة محاسبية "على الورقة والقلم"، ولا تأخذ بعين الاعتبار عوامل التنمية وتحفيز النمو"، بحسب الخبير الاقتصادي والمصرفي نيكولا شيخاني. والمشكلة من وجهة نظر شيخاني أنّ "مصادر الإيرادات الأساسية التي تتمثل بالضرائب، وعوائد المرافئ، وأرباح الشركات العامة المنتجة... معطّلة. فلا جباية جدية للضرائب وسط ارتفاع معدلات التهرّب والتهريب. والشركات المنتجة من كهرباء واتصالات ومياه... مفلسة. والرسوم مجمّدة نتيجة توقف المعاملات". في المقابل "تزداد المدفوعات بشكل جنوني، لأنهم ينفقون من دون تفكير"، من وجهة نظر شيخاني. وكل ما يهمهم هندسة الأرقام دفترياً لتظهر الموازنة متوازنة وقليلة العجز لإرضاء مطالب صندوق النّقد الدّولي. في حين تكون مليئة بالألغام. حيث تفوق النفقات الواردات بأضعاف مضاعفة. وبحسب شيخاني فإنّ "المطلوب وضع موازنة جدّية وصحيحة تتماشى مع الوضع الاقتصادي. على أنّ تكون موازنة تقشّفية، مترافقة مع مكننة أجهزة الدولة لتتمكن من جباية الإيرادات وزيادتها، وتفعيل الدور الرّقابي لديوان المحاسبة، وإلّا ستبقى الموازنة عاجزة، وميزان المدفوعات سلبي وسيتدهور سعر الصرف أكثر.

استحالة وضع موازنة

من جهته يرى مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية، ورئيس الهيئة الأهلية لمكافحة الفساد أمين صالح أنّ "هناك استحالة بوضع موازنة حقيقية عند هذا المستوى الهائل من التضخم، وفي ظل تعدّد أسعار الصّرف. فمجرّد إطلاق أرقام التّضخّم الحقيقية، سيُطلق بحد ذاته موجة تضخّم جديدة. كما أنّ المسؤولين لا يملكون تقديراً حقيقياً لحجم الزيادات المطلوبة، ولا يملكون دراسات حقيقية لانعكاساتها. ذلك أنّ أيّ زيادة على الرّواتب والأجور بغضّ النّظر إن كانت من الموازنة أو خارجها ستؤدّي إلى زيادة بالطلب على السلع والمنتجات، أي طلباً إضافياً على الدولار، وستؤدّي إلى زيادة بالتّضخّم وارتفاع سعر صرف الدولار... وهكذا دواليك". ويضيف صالح "لقد سبق وحذّرنا من هذا المسار مراراً، وتحديداً في موازنة العام 2022. معتبرين أنّه لا يمكن وضع موازنة في ظل تعدّد أسعار الصرف والتّضخم غير المضبوط. إلّا أنّنا كنّا نواجَه باستمرار الدولة عن سابق إصرار وتصميم بتغذية التضخّم لاعتقادها بأنه يشكلّ حلّاً للأزمة. وهذا نهج خاطئ شكلاً ومضموناً لأن التّضخّم يجرّ تضخماً، ويصبح من شبه المستحيل الاستمرار في هذا المسار".

أما من الجهة الثانية فيرى صالح أنّ "تذرّع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بعدم إمكانية تصحيح الرّواتب إلّا من ضمن الموازنة، غير صائب". فهناك برأيه "معاناة حقيقية عند المواطنين، وهم عاجزون حرفياً لا مجازياً، عن تأمين قوت يومهم. وهم يتحملون مسؤولية السياسات الخاطئة لأصحاب القرار، الذين أطلقوا "وحش" التضخّم في 17 تشرين الاول 2019.

ويعود صالح ليذكر سعادة الشامي بما حصل في العام 2012 عندما فُتح اعتماد استثنائي في الموازنة بقيمة 6800 مليار ليرة لتمويل النفقات الضرورية، نظراً لغياب الحسابات والعجز عن وضع موازنة جديدة. وقد عمدت الحكومات خلال السنوات المنصرمة على الصرف مرات عديدة بسلف الخزينة لضمان استمرار عمل مرافق الدولة". ويتابع صالح "تستطيع الحكومة الاجتماع اليوم لإعطاء سلفة خزينة لوزارة المالية من أجل الصرف على الرواتب للموظفين والمتقاعدين والمتعاقدين في القطاع العام. فهم معتادون على مخالفة القانون وتمويل الانفاق العام بسلف خزينة".

 في جميع الأحوال يقف القطاع العام ظاهرياً أمام معضلتين: شلّ إدارات الدولة ومؤسساتها وانهيار عائداتها بسبب الإضرابات المتلاحقة. أو زيادة الرواتب والتسبّب بالمزيد من التضخم، والعودة لاحقاً إلى الإضرابات في وقت ليس ببعيد. أمّا المعضلة الأكبر باطنياً، فتبقى إصرار المنظومة على تغييب العلاجات الفعالة خوفاً من المحاسبة، وتحسباً من الإقصاء عن مراكز القرار.