خالد أبو شقرا
اختار المسؤولون اللبنانيون، عن سابق تصوّر وتصميم، معالجة انهيار القيمة الشرائية لرواتب الموظفين بـ "كورتيزون" المساعدات الاجتماعية، بدلاً من تنفيذ الإصلاحات الجوهرية. زيادات سرعان ما ينتهي مفعولها مع استمرار تحليق الدولار، فتعود "آلام" الإضرابات وشلّ المؤسسات، ويبقى الاقتصاد "منتفخاً" بكتلة هائلة من الليرات.
[caption id="attachment_4235" align="aligncenter" width="800"] رئيس الحكومة يبحث مع لجنة الانقاذ التربوي مشاكل القطاع[/caption]اقتصادياً، يُمكن إطلاق صفة "دوامة التضخم" على الواقع اللبناني. فالزيادات على رواتب موظفي القطاع العام التي بدأت بمراسيم رئاسية مطلع كانون الثاني 2022، لم تلبث أن تحولت إلى قانون في موازنة العام نفسه، التي أقرت في أيلول بتأخر 9 أشهر. فانتقلنا مما اتفق على تسميتها "مساعدات اجتماعية مؤقتة"، تتضمن إعطاء نصف راتب وزيادة بدل النقل إلى 64 ألف ليرة وبعض الحوافز التعليمية، بكلفة ناهزت 13 ألف مليار ليرة، إلى مضاعفة الراتب ثلاث مرات بكلفة قدّرها حاكم المصرف المركزي بـ 3.3 ألف مليار ليرة شهرياً، أو ما يعني 39.9 ألف مليار ليرة سنوياً.
وهنا يمكن ملاحظة ثلاث مفارقات جوهرية
- حجم الزيادة الأخيرة يوازي مجمل رقم النفقات المقدرة في الموازنة.
- الزيادات كان يجب أن يعمل بها لغاية نهاية 2022، على أن تعدّل في موازنة 2023 بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي. فيما يستمر للشهر الثاني على التوالي هذا العام العمل بموازنة العام الماضي على أساس القاعدة الاثني عشرية.
- كان سعر الصرف في تاريخ إقرار الموازنة بحدود 38 ألف ليرة، فيما هو اليوم 64 ألفاً. وكان سعر صرف الدولار على منصة صيرفة الذي يتيح بحسب التعميم 161 تحويل الرواتب على أساسه إلى الدولار محدد بـ 29800 ليرة فيما هو اليوم 43600 ليرة.
الإضرابات مستمرة
خسرت الزيادات التي أعطيت على الرواتب نحو نصف قيمتها في غضون 5 أشهر. وعادت الإضرابات لتعمّ مختلف مرافق الدولة العامة. فقرّرت الحكومة مرّة جديدة رفع بدل النّقل من 95 ألف ليرة إلى 200 ألفاً، وإعطاء بدل إنتاجية بقيمة 400 ألف ليرة عن أيام الحضور الفعلية. الكلفة المادية لهذه الزيادة تبلغ 1065 مليار ليرة، بحسب الدولية للمعلومات، الجزء الأكبر منها مخصص لدعم رواتب الموظفين في القطاع العام. وأنيط وضع آلية التوزيع باللجنة الوزارية المختصة مطلع الأسبوع المقبل، "على أن تكون مقسّمة حسب الفئات الوظيفية في القطاع العام"، بحسب ما تفيد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر. و"في جميع الحالات فإن متوسط هذه الزيادة البالغ 600 ألف ليرة، لا تكفي لذهاب وإياب أكثرية الموظفين إلى مراكز عملهم. فما بالنا ببقية المصاريف الحياتية، وفي مقدمتها الكلفة الاستشفائية وكلفة الطاقة".
وتبرز قمة التناقض في القرارات الرسمية برأي نصر في "إلزام الموظفين تحويل رواتبهم إلى الدولار على سعر منصة صيرفة، ودفع فاتورة الكهرباء على أساس صيرفة + 20 في المئة. فيزيدون الأعباء على كاهل الموظفين بدل تخفيفها. وفي ما يتعلق باحتساب صيرفة على أساس 38 ألف ليرة لموظفي القطاع العام لفتت نصر إلى أن "هذا الأمر جرى استثنائياً ولمرة واحدة، مستبعدة تكراره في المستقبل".
وطالما لم يحصل ربط بدلات النقل والانتاجية بارتفاع سعر صرف الدولار، وتأمين التغطية الدوائية والاستشفائية للموظفين فان "كل الزيادات لن تؤدِّي إلى العودة إلى العمل"، تفيد نصر. وهذا ما سيؤدّي حكماً إلى تراجع مداخيل الدولة من الرسوم والمعاملات نتيجة الشلل في الإدارة العامة وبقية المرافق".
التعليم الرسمي معطل
الزيادات الأخيرة على الرواتب طالت أيضاً العاملين في قطاع التعليم الرسمي، من مثبّتين ومتعاقدين. وعلى غرار موقف موظفي الإدارة العامة، لم تنل الزيادات قبول المعلّمين، ولاسيما المتعاقدين منهم، الذين يشكلون نحو 70 في المئة من الكادر التعليمي. وقد أعطيت هذه الزيادات حجماً أكبر من حجمها الفعلي من قبل المسؤولين، لرمي مسؤولية التعطيل على عاتق المعلمين"، بحسب ما تفيد ممثلة المتعاقدين في التعليم الرسمي الثانوي منتهى فوّاز. فـ"المتعاقدون لم يتقاضوا بدل النقل عن العام الماضي، بسبب إبطال مجلس شورى الدولة القرار غير الصادر بمرسوم. وفي ما خص هذا العام، فإن سريان مفعول بدل النقل يبدأ في آذار المقبل، ولكي يوضع موضع التنفيذ يتطلب نقل اعتمادات، يقرّها مجلس النواب. أما بالنسبة للحوافز فقد جرى ربطها بالحضور ولسبعة أشهر فقط على أن تؤمّن وزارة المالية فتح اعتماداتها تباعاً. وعليه لا عودة إلى المدارس.
الترقيع لا يصنع حلاً"
أمام ما تقدم، يظهر بشكل واضح وصول سياسات الترقيع في الرواتب والأجور إلى حائط مسدود. فمع تسارع وتيرة الانهيار أصبحت الزيادات التي تعطى بالليرة أعجز من أن ترضي الموظفين. والأخطر أنّها تقرّ ويخصّص لها اعتمادات من طباعة الأموال. الأمر الذي يزيد حجم الكتلة النقدية تحت الطلب بالليرة، التي تعود وتتحول بشكل مباشر وغير مباشر إلى الدولار، فتتسبب بارتفاع سعره مقابل الليرة وتسبب المزيد من انهيار القدرة الشرائية.
هذه الحلقة المفرغة التي دخلنا فيها، تعود إلى "عدم تنفيذ أيّ شرط إصلاحي جرى وضعه في بداية الأزمة"، يقول عضو "المجلس الاقتصادي والاجتماعي"، ممثل الجامعة اللبنانية في "لجنة المؤشّر" د. أنيس بودياب. و"قد تظهّر هذا الواقع بشكل واضح مطلع الأسبوع الحالي في التصاريح على هامش الاجتماع الذي جرى في المملكة العربية السعودية مع نائبة رئيس صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الاوسط. إذ أجمعت على أن الوضع في لبنان ما زال متعثراً. وبالتالي فإنّ "الزيادات بالليرة على الرواتب والأجور، المترافقة مع تعطّل المرفق العام وتمديد المهل ستؤدي إلى إنهاك الاقتصاد والاستمرار في نزيف الكفاءات والموارد المتاحة، التي تعطّل كامل العملية الانتاجية". والخروج من هذه الدوامة يتطلّب حلولاً جذرية ترتبط بالإصلاحات التي جرى الاتفاق عليها في الاتفاق المبدئي على صعيد الموظفين مع صندوق النقد الدولي. عدا ذلك كله "وهم"، على حد توصيف بودياب.
لا دعوة بعد للجنة المؤشر
أمّا بخصوص زيادة الرواتب وبدل النقل في القطاع الخاص، فلم يتم بعد الدعوة للجنة المؤشر، ولم يصدر بعد مرسوم زيادة 4.5 مليون ليرة الذي جرى الاتفاق عليه. لكن القطاع الخاص "سبّاق"، من وجهة نظر بودياب، و"70 في المئة من المؤسسات يواكب تغيّر الأسعار بزيادات تعطى بالدولار. لكن المشكلة أن هذه الزيادات تبقى من خارج أساس الراتب ولا تدخل في تعويض نهاية الخدمة". ومن المفترض بحسب السياق المنطقي للأمور أن تزداد الرواتب بنفس نسبة تخفيض سعر الصرف، أي أقله 10 مرات، فتصبح 6 ملايين و750 الف ليرة.
على الرغم من التحسن الملحوظ في وضع القطاع الخاص، فإن "الحقيقة المرّة" هي أن الاقتصاد لا يقوم في ظل ترهّل القطاع العام. فالقطاع العام النشيط والمزدهر والبعيد عن الفساد يعتبر أساسي للنمو، وهذا ما يظهر على أنه لا يزال بعيد المنال في لبنان.