هل تراخيص شركات التأمين فريسة بيد المبتزّين من أصحاب السلطة في وزارة الاقتصاد؟ وما تأثير ذلك على صحة بيانات قطاع التأمين في لبنان؟

سبب طرح السؤال ومحاولة درء تداعياته وانعكاساته على قطاع التأمين برمّته، هو قضية الفساد التي أثيرت مؤخراً بين من يمكنه توقيع الرخص من جهة، والشركات التي تحتاج إلى الرخص من جهة أخرى.

الترخيص لشركات التأمين من الناحية النظرية

نظرياً إن كانت شركة التأمين متمّمة لواجباتها المالية والقانونية، بُفترَض أن يبقى ترخيصها صالحاً دون وسيط أو واسطة، إلا إذا وُجِد من يريد ان يستفيد من التوقيع بقدْر قد لا تعتبره الشركة يستحق التعارض مع صاحب التوقيع. فتدفعه الشركة تجنّبا للعرقلة. أما إذا كانت الشروط المطلوبة للحفاظ على الترخيص غير موجودة، فتقع الشركة فريسة الابتزاز لأنها تصبح الحلقة الأضعف. فيأتي "الوسيط" ليفاوض بين الطرفين ليدفع المبالغ المتفق عليها والتي يستلمها من الشركة ويحفظ حصته منها ويدفع الباقي لصاحب السلطة أي صاحب التوقيع. وهذا هو جرم الفساد الذي يسمى "الرشوة."

عادة ما تحصل جرائم الفساد بالخفاء، وإثباتها صعب. إلا أن تحرك أي شخص من المعنيين تجاه القضاء، أو الإعلام، أو الوزارة، أو الهيئة المعنية بكشف الفساد هو الطريق الأسرع لكشف الرشوة واعتماد المساءلة والمحاسبة. وغالباً ما يكون المخبر في البلدان التي تريد مكافحة الفساد كاشف الفساد وتقدّم له الحماية.

ما يحصل فعلياً على أرض الواقع

فعلياً، احتفظ وزير الاقتصاد السابق أمين سلام بحق توقيع رخص شركات التأمين وعيّن شقيقه كريم سلام وفادي تميم مستشارَين له.

وكان مدقّق الحسابات ايلي عبود قد تعاون مهنيا مع فادي تميم، وهو أيضاً مدقق حسابات مسجل ممارس للمهنة في نفس عنوان مكتب ايلي عبود. وهما مع آخرين يعملون تحت اسم شركة التدقيق والاستشارات UHY Andy Bryan.

أما شركة التأمين التي يبدو أنها غير مستوفية الشروط المعنية فهي شركة "المشرق للتأمين"، التي وقعت فريسة تحويلها من الراشي، الى "كاشف فساد" يستحق الحماية لكشف تاريخ الممارسات التي عانى منها القطاع.

فهل قام المستشار السياسي لوزير الاقتصاد السابق أمين سلام، المدعو فادي تميم بابتزاز شركة المشرق للتأمين، لدفع مبلغ طائل مقابل عدم سحب رخصتها من الوزارة المسؤولة؟ ولمصلحة من؟ وكيف تعرّفت شركة المشرق إلى المدعو فادي تميم؟ هل جرى ذلك عبر شركة التدقيق والاستشارات UHY Andy Bryan؟ أم أن لديه شركة أخرى قائمة ومسجلة على نفس العنوان؟

مجريات التحقيق

عند التوسع في التحقيق، أكد فادي تميم أن لا علاقة لكريم سلام (شقيق الوزير ومستشاره) بهذا الموضوع. إذاً من هو المستفيد من المبلغ؟ كما نفى فادي تميم قوله إن المبلغ المطالَب به أساساً هو أربعمائة ألف دولار أميركي. وأضاف أن شاهدا حضر الاجتماع الذي عقِد لدى رئيس بلدية بيروت عبد الله نور الدين درويش بصفته عضوا في مجلس إدارة شركة المشرق للتأمين. وأدلى درويش بأن تميم حضر إلى بلدية بيروت وقال له، أنه سيسوّي وضع الشركة، وطلب منه دفع مبلغ 400 ألف دولار مقابل الحصول على براءة ذمة من وزارة الاقتصاد، وهي بمثابة إقفال ملف، وأنه أخرج نفسه من الموضوع إثر شعوره بالابتزاز الحاصل. واللافت أن رئيس بلدية بيروت أقرّ بأنه استضاف اجتماعاً في مكتب البلدية، لا علاقة له بعمل البلدية.

وبحسب مدقق حسابات شركة المشرق للتأمين إيلي عبود، الذي يملك شركة متخصصة في مجال التدقيق، والذي أصبح نقيباً لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان في حزيران 2024، لا يملك تميم أي سهم في الشركة ويجلب الزبائن لقاء عمولة. وأفاد بأنه تداول في ملف الشركة مع تميم شفهياً بصفته مستشارا لوزير الاقتصاد. وأوضح عبود أنه تدخّل في الموضوع لحل خلاف بين تميم وصاحب الشركة جورج ماطوسيان، وأنه يعلم بأن ماطوسيان دفع لتميم مبلغ مائة ألف دولار دون أن يعرف ما إذا كان ذلك رشوة أم أتعاباً، وأنه لا يعرف أيضا ما إذا كان لكريم سلام أي علاقة بهذا الموضوع. فكيف يحلّ الخلاف بين تميم وماطوسيان دون أن يُعرف ما هو الخلاف؟ ولماذا يسمح مدقق حسابات شركة المشرق لنفسه بإطلاع تميم، وهو مستشار الوزير، على ملف الشركة ولو شفهياً؟

الحبكة بحسب محاضر التحقيق

أفاد تميم بأنه منذ نحو سبعة أشهر يحضر إلى وزارة الاقتصاد مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، كمستشار سياسي لوزير الاقتصاد دون وجود أي قرار رسمي بهذا الخصوص، وأن درويش، المدير الإقليمي لشركة المشرق للتأمين ورئيس بلدية بيروت حاليا، اتصل به منذ نحو شهرين وطلب منه المساعدة لحل الإشكال بين الشركة ووزارة الاقتصاد، وأنه اجتمع به في بلدية بيروت منذ نحو ثلاثة أسابيع وعرض عليه أن تدفع الشركة كفالة مصرفية بقيمة 250 ألف دولار لتمكينها من زيادة رأسمالها. أضاف تميم أنه أبلغ درویش بأنه يريد أتعاباً له كمستشار مالي بقيمة 250 ألف دولار، وأن درويش حاول تخفيض المبلغ إلى مئتي ألف دولار، فوافق. كما أفاد تميم بأنه التقى ماطوسيان، محدداً اتعابه بمبلغ 250 ألف دولار، فوافق ماطوسيان على الأمر، وطلب إرسال شخص إلى مكتبه في ضبيه لتسليمة جزءاً من المبلغ، فأرسل له شخصاً يدعى "فلاح" لقبض مبلغ مائة ألف دولار. بعد أربعة أيام من ذلك اتصل به عبود، وهو شريكه في شركة التدقيق المحاسبي و مدقق مالي لدى شركة المشرق، وأبلغه بأن ماطوسيان يريد حل ملف الشركة بـ " السياسة"، فأجابه بأنه مستعد لإعادة المبلغ كاملاً، وأضاف بأن المبلغ لا يزال بحوزته ومستعد لتسليمه لماطوسيان، وأكد أن لا علاقة لكريم سلام بهذا الموضوع على الإطلاق.

القطب المخفية

يبقى من هذه القصة التي تنطوي على عملية تزوير وفساد كبيرين بين وزارة الاقتصاد وشركات المحاسبة ومستشارين وشركات تأمين، قطب مخفية. تظهر المعلومات المأخوذة من دليل نقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان LACPA أن النقيب إيلي عبود، وفادي ظافر تميم يعملان في شركة واحدة شركة UHY Andy Bryan للاستشارات والتدقيق. وأن عبود هو "شريك الاتصال" أي أنه المسؤول أمام الشركة عن جميع العاملين باسمها وأنهم بذلك يخضعون لإشرافه في لبنان.

فلماذا بحث عبود شفهياً ملف الشركة مع فادي تميم بصفته مستشاراً لوزير الاقتصاد؟ ألا يشكل ذلك تضارب مصالح إذا لم يكن ملف الشركة يستوفي الشروط المطلوبة لتجديد الرخصة؟ ولماذا اتصل ماطوسيان بمدقق الحسابات عبود لحل المشكلة بينه وبين فادي تميم إذا كان عبود غير مطلع على كامل التفاصيل؟

تضارب المصالح

تظهر معلومات في قضايا شركات التأمين أن هناك تضاربا كبيرا في المصالح بينها وبين شركات التدقيق، لا سيما عندما تقدم الاخيرة الخدمات الاستشارية، والتدريب وبيع البرامج المعلوماتية، وتقوم في آن واحد بأعمال التدقيق للشركة نفسها، زيادة عن دفع عمولات للحصول على زبائن التدقيق.

فكيف نضمن استقلالية المدقق الذي استثمر ودفع عمولة ليحصل على الزبون؟ فهل يكتب الحقيقة في تقريره ويخسر الاستثمار في الزبون والمنافع التجارية الأخرى؟ وإذا لم يكن هناك من استقلالية، من يضمن صحة البيانات المالية الخاصة بشركات عدة في قطاع تأمين؟ وبما ورد أعلاه من احتمال وجود الرشوة، أين هي الرقابة الفعالة المهنية والتقنية على قطاع التأمين والشركات المدققة في هذا القطاع؟ فهل هناك ثقة في البيانات المالية المنشورة على أساس أنه مدقق فيها؟ فهل يمكن الاطمئنان إلى عدم انهيار القطاع كما حصل مع قطاع المصارف، دون الرقابة المستقلة عن نقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان؟ وهل نتعلّم من الدروس القاسية التي عاشها لبنان في انهيار القطاع المصرفي بالرغم من أنه خضع للتدقيق من أكبر الشركات الدولية دون رقابة عليها؟