أعادت الدولة اللبنانية عبر أجهزتها المعنية تشغيل محركات التفاوض مع صندوق النقد الدولي. ومما يفهم من جوهر الاجتماعات التي تقودها وزارة المالية مع المعنيين في ملف التفاوض، أن هناك مطلبَين مفصلَين للصندوق يحددان مصير الاتفاق. والمطلبان هما: إعادة هيكلة المصارف، وتعديل قانون السرية المصرفية.

المطلبان اللذان شكلا عائقاً أساسياً أمام المضي قدماً بالاتفاق السابق الذي وقعه لبنان مع "الصندوق" على صعيد الموظفين في نيسان 2022، شهدا تحولات كمّية ونوعية. فهل أصبح تحقيقُهما أسهل للوصول إلى إتفاق جديد، أم أن هناك قطباً مخفيةً تعيق تحقيقَهما.

السرية المصرفية

على صعيد تعديل بعض المواد، (المعدلة أساساً في قانون السرية المصرفية رقم 306/2022)، يبدو أن المسار لن يكون مفروشاً بالسجاد الأحمر. فصندوق النقد الدولي اعتبر أن التعديلات التي أُدخلت على هذا القانون لا تفي بغرض التدقيق في حسابات المصارف تمهيداً لاعادة الهيكلة. وهي لا تسمح لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع القيام بعملها على أكمل وجه. وعليه طالب الصندوق مجدداً بتعديل الفقرتين (هـ) و(و)، من المادة (7) من القانون 306، وبتعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف، المتعلقة بعدم إفشاء المصارف سرية حسابات عملائها تجاه مراقبي المركزي (المادة 150 في الكادر المرفق). باختصار فإن ما يرضي صندوق النقد الدولي هو رفع مطلق للسرية المصرفية بالنسبة للأطراف المعنية، وذلك على غرار الامكانية الممنوحة للقضاء ولوج الحسابات بدون قيد أو شرط.

إزاء هذا الواقع تقدم النائب فؤاد مخزومي باقتراح قانون إلى مجلس النواب يتضمن إدخال تعديلات على المادة (7) كما يطلبها صندوق النقد، بالاضافة إلى اقتراح تعديل المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية 44/2008، المعنية بتحديد الآلية التي تسمح لوزارة المالية برفع السرية المصرفية بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء. "المشكلة أن انتظار إصدار هذه المراسيم قد يطول أو حتى لا يبصر النور أبداً"، حسب قول المحامي والأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة د. كريم ضاهر. "والدليل، عدم صدور المراسيم المدرجة في القانون 306 والتي تتيح لمصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، ومؤسسة ضمان الودائع، رفع السرية المصرفية منذ العام 2022". وهو "الأمر الذي أثار حفيظة صندوق النقد، وجعله أكثر إصراراً على إتاحة الإمكانية مباشرة لمصرف لبنان تحديد آلية رفع السرية المصرفية من دون انتظار المراسيم التطبيقية". وعلى الرغم من أهمية اقتراح القانون المقدم من النائب مخزومي، إلا أنه لا يتوافق مع طريقة تقديم التعديلات على القوانين. "فبدلاً من أن يتضمن اقتراح القانون تعديل النقاط الثلاث المطلوبة من صندوق النقد الدولي، يعيد استعمال نفس النص للقانون 306 وهذا ما يُعتبر خطأً بالشكل" من وجهة نظر ضاهر.

وزارة المالية تلقفت التعديلات و"فخّختها"

وزارة المالية تلقفت التعديلات على القانون المقترحة بقانون النائب مخزومي، وطرحت بدورها مشروع قانون لتعديل السرية المصرفية. توافق في المضمون مع التعديلات المطلوبة على الفقرتين (هـ) و(و) من المادة 7، إلا أنه "فخّخ" المادة الثالثة، التي تعدل المادة 150 من قانون النقد والتسليف في مشروع قانون تعديل السرية المصرفية. إذ نص التعديل على "رفع السرية المصرفية بشكل كامل وغير مقيد تجاه كلٍّ من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وأي طرف يتم تكليفه بمهام تدقيق أو رقابة من قبل أي منهما، وذلك في إطار ممارسة عمل الرقابة والتدقيق، أو القيام بأي أمر آخر مناط بأي منهما في أيٍ من القوانين الصادرة أو التي قد تصدر وتشكل رفع السرية المصرفية عن الحسابات الدائنة أو المدينة داخل وخارج الميزانية. وأيضا يمكن لمصرف لبنان ولجنة الرقابة طلب رفع السرية المصرفية عن أي سجلات أو معلومات عائدة لشخص معنوي أو حقيقي يتعامل مع أي مصرف أو مؤسسة خاضعة للرقابة بما فيها المحمية من السرية المصرفية تجاه أطراف أخرى". لغاية الآن "تتطابق التعديلات المقترحة مع المطلوب"، بحسب ضاهر. أم العثرة الكبرى فتكمن بحسب ضاهر بإضافة شرط "تطبيق رفع السرية المصرفية بمفعول رجعي إلى تاريخ صدور القانون 306، أي بتاريخ 28 كانون الاول 2024، بما يختص بالاعمال المتعلقة بإعادة هيكلة المصارف. ومن تاريخ صدور هذا القانون (المنوي تعديله) فيما يتعلق بالمهام الرقابية العادية، أو التي يحددها كل من مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف". ما يعني تطبيق رفع السرية المصرفية بمفعول آني وليس رجعي، الأمر الذي سيؤدي بحسب ضاهر إلى عدم قدرة المدققين الرجوع برفع السرية المصرفية عن الحسابات إلى ما قبل تشرين الأول 2022، وهي الفترة التي جرت فيها أغلبية عمليات تحويل الأموال والدعم وغيرها الكثير من التجاوزات في القطاع المصرفي. وكأن بالقانون يقول "عفا الله عما مضى"، وهذا ما لن يرضي صندوق النقد الدولي لأنه ببساطة يغطي جميع المخالفات التي حصلت منذ اندلاع الانهيار، ويوقف بالتالي عملية إعادة الهيكلة المرجوة.

على الصعيد المصرفي

تراجع خلال السنوات الخمس الماضية بند المطلوبات في ميزانية المصارف المجمعة بنسبة 48 في المئة. إذ انخفضت المطلوبات بالعملة الأجنبية من حدود 124 مليار دولار إلى 87.9 ملياراً. وشهد بند المطلوبات بالليرة اللبنانية انخفاضاً بسيطاً لا يتجاوز 3 في المئة، من 69592 مليار ليرة إلى 67895 ملياراً. إلا أنه نتيجة انهيار سعر الصرف من 1500 ليرة إلى 89500 ليرة تراجعت قيمة المطلوبات بالليرة، مقيّمة بالعملة الأجنبية، من حدود 46.4 مليار دولار إلى 760 مليون دولار فقط. وعليه تراجعت مجمل المطلوبات بالدولار والليرة على القطاع المصرفي من 170.5 مليار دولار إلى 88.6 مليار دولار.

التراجع الهائل بقيمة الودائع، الأشبه بعملية تذويب، نتيجة إرجاع القسم الأكبر من الأموال بغير قيمتها الحقيقية، يوحي، من حيث الشكل، أن إعادة الهيكلة أصبحت أسهل. إلا أنه في المضمون، تراجعت ودائع البنوك اللبنانية لدى المصارف المراسلة من حدود 9 مليارات دولار في أيلول 2019، إلى حدود 4 مليارات و700 مليون دولار لغاية نهاية 2024. وبلغت نسبة التراجع 47 في المئة. ويترتّب على المصارف التزامات تجاه المصارف المراسلة بقيمة 2.5 مليار دولار. وعليه فان صافي احتياطيات المصارف بالخارج يبلغ 2.2 مليار دولار فقط. في المقابل بلغت قيمة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان لغاية كانون الاول 2024، حوالي 79.5 مليار دولار، لا يتوفر منها إلا بحدود 10.5 مليار دولار كاحتياطيات بالعملة الأجنبية. وأمام هذا الواقع، وطالما صندوق النقد الدولي يرفض تحميل الدولة كلفة إرجاع الودائع، فإن الفجوة المالية تبلغ حوالي 67 مليار دولار، إذا افترضنا استخدام الاحتياطي والودائع لدى المصارف المراسلة، وهو رقم هائل يعجز المصارف عن ارجاعه، وقد يدفعها إلى عرقلة عملية اعادة الهيكلة على غرار ما جرى خلال السنوات الماضية.

إذاً، تحديات كبيرة مازالت تعترض إعادة هيكلة المصارف من الناحيتين القانونية والمالية، وتجاوزها للوصول إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا يبدو بالسهولة التي تتضمنها البيانات الصحفية. ومما هو واضح أن "اللف والدوران"، للهروب من المحاسبة عن الفترة السابقة لن يمر، على الجهات الشريكة التي تريد مساعدة لبنان. فهي تخيّر – لغاية الآن - المسؤولين بين خيارين أحلاهما مر: المحاسبة عن الفترة السابقة، أو ترك لبنان يغرق في أزماته المستفحلة. فلمن ستكون الغلبة؟!