يُعدُّ الأمن الغذائي من القضايا المحورية التي تواجه لبنان في ظلِّ الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالبلاد، بدءًا من الأزمة الاقتصادية وصولًا إلى التغيرات السياسية والصراعات الإقليمية. لبنان الذي كان يُعرف بتنوعه الزراعي وإنتاجه المحلي، بات اليوم يعاني من نقص في الإمدادات الغذائية وارتفاع حاد في الأسعار، ما يجعل تحقيق الأمن الغذائي تحديًا كبيرًا.

التحديات الرئيسية

تواجه لبنان عدّة تحديات أساسية تهدد الأمن الغذائي في البلاد منها نذكر:

1. الأزمة الاقتصادية والتضخم: مع انهيار العملة اللبنانية، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق، ما جعل القدرة الشرائية للمواطنين تتراجع بشكل كبير. ومع اعتماد لبنان على الاستيراد لتغطية جزء كبير من احتياجاته الغذائية، أدّى انخفاض قيمة الليرة إلى تفاقم الأزمة.

2. تراجع الإنتاج الزراعي: يواجه القطاع الزراعي اللبناني مشكلات عدّة، منها غلاء أسعار المدخلات الزراعية مثل البذور والأسمدة، وهجرة اليد العاملة والخبراء الزراعيين، ونقص الدعم الحكومي، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الواردات.

3. الأزمات السياسية وعدم الاستقرار الأمني: يؤثّر عدم الاستقرار السياسي بشكل مباشر على الأمن الغذائي، إذ يؤدي إلى غياب الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، وعرقلة الاستثمارات في قطاعي الزراعة والصناعة الغذائية. كما أن الأمن الغذائي مشروطٌ باستقرار أمني وعسكري، إذ إن أي تصعيد عسكري أو عودة الاشتباكات بين لبنان وإسرائيل قد تعرقل المناخ الإيجابي الحالي الذي طغى بعد انتخاب الرئيس الجديد وتشكيل الحكومة، مما ينعكس سلبًا على الاقتصاد اللبناني ككل، ويؤثر بشكل مباشر على توافر الغذاء واستقرار أسعاره.

4. تداعيات انفجار مرفأ بيروت: تسبّب انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 في تدمير جزء كبير من مخزون القمح والحبوب، ما أدى إلى أزمة في تأمين المواد الغذائية الأساسية، خاصة مع تأخر عمليات إعادة الإعمار وتأهيل المرافق التخزينية.

5. تغير المناخ وشح المياه: يعاني لبنان من تراجع الموارد المائية، ما يهدد الإنتاج الزراعي ويؤثر على وفرة الغذاء. كما أن التغيرات المناخية أدت إلى تراجع الإنتاجية الزراعية وزيادة المخاطر المرتبطة بالمحاصيل.

الى ذلك، يواجه نحو ثلث سكان لبنان انعدام الأمن الغذائي الحاد نتيجة تصاعد الصراع في أواخر عام 2024، حيث أثرت الأعمال العدائية على القطاع الزراعي والاقتصاد، مما يجعل التعافي بطيئًا، وفقًا لتقييم جديد للأمن الغذائي.

يُظهر تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) ، أن نحو 1.65 مليون شخص في لبنان يعانون حالياً من مستويات الأزمة أو الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي (المرحلة 3 من التصنيف أو أعلى)، مقارنة بـ 1.26 مليون شخص قبل التصعيد. وفي الوقت نفسه، يواجه 201,000 شخصاً مستويات الطوارئ (المرحلة 4 من التصنيف)، أي ضعف العدد قبل التصعيد.

وقال ماثيو هولينغورث، ممثل برنامج الأغذية العالمي في لبنان:

"تفاقم انعدام الأمن الغذائي في لبنان ليس مفاجئًا. فستة وستون يومًا من الحرب، سبقتها أشهر من الصراع، أدت إلى تدمير الأرواح وسبل العيش. وبينما يمكن للبعض العودة إلى منازلهم بعد وقف إطلاق النار، يواجه آخرون حقيقة قاسية بعدم وجود منزل يعودون إليه. وفي هذا الوقت الحرج، مهمتنا واضحة: دعم الحكومة والشعب لإعادة بناء حياتهم وأنظمتهم الغذائية".

ويتوقع التقرير استمرار حالة انعدام الأمن الغذائي خلال الأشهر الثلاثة المقبلة دون عودة قصيرة الأمد إلى الظروف التي كانت قبل الأزمة. ومع التحديات المقبلة، ستكون الجهود الإنسانية المستمرة لدعم التعافي بالغة الأهمية.

وتشير فيرونيكا كواترولا، ممثلة منظمة الأغذية والزراعة في لبنان بالإنابة : “أثرت الأعمال العدائية بشكل كبير على سبل عيش المزارعين، وكذلك على الأصول الزراعية والبنية التحتية، مما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي وتهديد استدامة الأنشطة الزراعية." وأضافت: "تلتزم منظمة الأغذية والزراعة بمساعدة المزارعين على استئناف الإنتاج ودعم المجتمعات لإعادة البناء وتعزيز قدرتهم على الصمود".

وأشار التقرير إلى أن اللاجئين في لبنان معرضون بشكل خاص للخطر. حيث يُصنف حوالي 594,000 لاجئ سوري (40 بالمئة من اللاجئين السوريين) و89,000 لاجئ فلسطيني (40 بالمئة من اللاجئين الفلسطينيين) على أنهم في المرحلة 3 (أزمة) أو أعلى. كما أن نحو 970,000 مواطن لبناني (25 بالمئة من السكان) يقعون في نفس الفئة.

لا يزال سوء التغذية يشكل خطرًا كبيرًا في لبنان، خاصة في أوساط الأطفال والمراهقين والنساء. وأظهرت دراسة حديثة أن ثلاثة من كل أربعة أطفال دون سن الخامسة يتبعون أنظمة غذائية تفتقر إلى التنوع، مما يجعلهم عرضة للتقزيم والهزال.

الحلول الممكنة لتعزيز الأمن الغذائي

من الحلول التي يمكن اعتمادها لمواجهة خطر انعدام الأمن الغذائي في لبنان نذكر:

1. دعم الإنتاج المحلي: لا بد من توفير دعم حكومي مباشر للمزارعين، سواء عبر تأمين القروض الميسّرة أو توفير المدخلات الزراعية بأسعار مدعومة، ما يعزّز الإنتاج المحلي ويقلل من الاعتماد على الاستيراد.

2. تحسين سلاسل التوزيع والتخزين: الاستثمار في بنية تحتية متطورة لتخزين الحبوب والمنتجات الزراعية يساعد في تأمين مخزون استراتيجي للبلاد ويقلل من المخاطر المرتبطة بتقلبات الأسواق العالمية.

3. تعزيز السياسات الزراعية والاستثمار في التكنولوجيا: يمكن للحكومة، بالتعاون مع القطاع الخاص، تطوير تقنيات زراعية حديثة مثل الزراعة الذكية والري المستدام، ما يزيد الإنتاجية ويقلل الهدر.

4. التوجه نحو الاكتفاء الذاتي: من الضروري وضع استراتيجية وطنية لتعزيز الاكتفاء الذاتي، من خلال التركيز على زراعة المحاصيل الأساسية وتشجيع المشاريع الريفية المستدامة.

5. التعاون الإقليمي والدولي: يمكن للبنان الاستفادة من الدعم الدولي عبر الشراكات مع منظمات الأمم المتحدة، والبنك الدولي، والدول المانحة، لتنفيذ برامج تعزز الأمن الغذائي.

مع التحولات السياسية الأخيرة، لا بد من استغلال المناخ الإيجابي الحالي لتطوير سياسات فعالة تعزز الأمن الغذائي وتعيد للبلاد قدرتها على تأمين احتياجاتها الغذائية. ومع ذلك، يبقى الاستقرار الأمني والعسكري عاملًا حاسمًا في ضمان استمرار هذا التقدم، إذ إن أي توترات أو تصعيد قد يعيد لبنان إلى دوامة الأزمات، مما يستدعي جهودًا إضافية لضمان بيئة مستقرة تتيح تحقيق الأمن الغذائي المستدام.