شهدت الماكينة الإنتاجية العالمية تحوّلات مُهمّة ناتجة عن العوّلمة وتطوّر وسائل النقل وذلك منذ ثمانينات القرن الماضي. وبالتالي أصبحت وسائل النقل أساسية في الماكينات الإقتصادية نتيجة تعلّق الإقتصادات بعضها ببعض. كان للنقّل الجوّي حصّة كبيرة من باب أنه يُعتبر وسيلة النقل الأكثر فعّالية في نقل الأشخاص ولكن أيضًا السلع والبضائع التي تتطلّب وقتًا قصيرًا لنقلها من بلدٍ إلى أخر وبالتالي لدى الطيران قدرة خرق تجارية كبيرة. بمعنى أخر للنقل للجوّي وزن إقتصادي ودور إستراتيجي في الإقتصاد.
مطارات لبنان
تاريخياً، يمتلك لبنان عدة مطارات، لم تكن كلها في الخدمة في نفس الوقت ولم تكن لها نفس الأهداف التي أُنشأت لها:
مطار رفيق الحريري الدولي: يُشكّل هذا المطار، الوحيد في الخدمة اليوم، البوابة الأساسية للبنان على صعيد نقل الأفراد. لكن أداء هذا المطار تعرّض ويتعرّض للعديد من النكسات في الخدمات المُقدّمة بسبب الوضع الجيوسياسي الذي يعيشه لبنان منذ ما قبل إفتاح المطار في العام 1954. ويواجه هذه المطار عِدّة تحدّيات منها مُنافسة العديد من المطارات الإقليمية، وسيطرة عدد من الشركات على الخدمات فيه من دون منافسة فعلية ما يجعل مستوى الخدمات فيه مُتدنّياً.
مطار رينيه معوض – القليعات: تمّ إنشاء هذا المطار من قبل شركة نفطية في أواخر خمسينيات القرن الماضي ليتحوّل بعدها إلى قاعدة جوية عسكرية في منتصف الستينات. تمّ استخدامه خلال الحرب الأهلية كبديل عن مطار بيروت، إلا أن هذا الاستخدام توقف مع انتهاء الحرب الأهلية ولم تنجح كل المُحاولات لإعادة فتحّه أمام الخدمات المدنية بسبب غياب الإرادة السياسية.
قاعدة رياق الجوية: تم إنشاء هذه القاعدة خلال الانتداب الفرنسي لأغراض عسكرية وتمّ استخدامه خدمت خلال الحرب العالمية الثانية. ولاحقًا أصبحت تحت سيطرة الجيش اللبناني الذي يستخدمها لأغراض عسكرية وأحيانًا إغاثية، ولم يتمّ استخدامها للطيران المدني.
مطار حامات: هو عبارة عن مطار صغير بُني إبان الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1976 (لم تكتمل عملية بناءه) وسُمّي آنذاك بمطار بيار الجميّل الدولي. وبعد الحرب تحوّل المطار إلى مركز للجيش اللبناني، ولاحقًا إنتقَلَت إليه مدرسة القوات الخاصة ليُصبح ابتداء من العام 2010 قاعدة حامات الجويّة التابعة للجيش اللبناني.
اليوم تعود قضية تفعيل مطار القليعات إلى الواجهة بعد الأحداث التي شهدها لبنان على خلفية منع طائرة إيرانية من الهبوط في مطار رفيق الحريري والذي هدّدت إسرائيل بقصفه في حال حصل هذا الأمر بحسب ما ورد في الإعلام اللبناني.أصبح اليوم من الضروري إعادة تفعيل مطارات أخرى للاستخدام المدني.
مبادرة الفينيق: إعادة إحياء سماء لبنان
الإٍستراتيجة المطروحة تخدم عدة محاور على رأسها المحور الإقتصادي حيث أن تفعيل العديد من المطارات يخلق الوظائف ويُساهم بشكل أساسي في الإنماء المناطقي من خلال خلق الشركات الخدماتية حول المطارات ومن خلال تدعيم الوصول إلى مناطق على أطراف ستكون مرشّحة للإزدهار حكمًا بحكم تطور القطاع الخاص خاصة الصناعي والزراعي والخدماتي. ولا ننسى أن أي بدء بعملية إعادة إعمار سوريا، سيكون له وقع إقتصادي كبير على هذه المناطق من خلال إستخدام مطاراتها في عمليات لوجستية. أضف إلى ذلك أن خلق مطارات جديدة يسمح بتخفيف التركيز السكاني عن بيروت وجبل لبنان ويُريح بنتيتها التحتية ويؤسس لمرحلة جديدة في عملية الإنماء المناطقي والمساوات بين اللبنانيين وتثبيت الأطراف في بيوتهم وتفادي خلق ضواحي فقيرة. على الصعيد الوطني، فإن زيادة حركة الوافدين إلى لبنان وإستخدام المطارات من قبل الشركات الأجنبية سيزيد حكمًا من دخول العملة الصعبة وهو ما سيؤدّي إلى دعم العملة الوطنية:
مطار بيروت رفيق الحريري الدولي: يجب توسيع وتحديث هذا المطار لتلبية مُتطلّبات زيادة حركة المرور فيه وتحسين الخدمات ورفعها إلى مستوى الخدمات الدولية. هذا الأمر يزيد من منافسة مطار بيروت للمطارات الإقليمية الأخرى خصوصًا في ظل طفرة إقتصادية مُحتملة يحملها مشروع ترامب إلى المنطقة.
مطار رينيه معوض – القليعات: يُمكن بدء العمل بهذا المطار الذي لا يُشكّل مُنافسة لمطار بيروت، في فترة صغيرة من الزمن خصوصًا أن المطلوب هو إصلاح وتوسيع المدرجات (لاستيعاب طائرات أكبر) ووضع أنظمة توجيه وسلامة حديثة مما يتطلّب تقييم مُفَصّل للبنية التحتية الحالية واستخدام الأراضي، وتمويل يُمكن تأمينه من خلال الـ BOT. أيضًا يتوجّب وضع بروتوكولات للاستخدام المشترك بين الجيش اللبناني وإدارة الطيران المدني على مثال ما يحصل في قاعدة بيروت الجوية. بالطبع الفوائد الإقتصادية هائلة على المنطقة (شمال لبنان) حيق من المتوقّع خلق ألاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة وخلق عشرات الشركات لتلبية الخدمات حول المطار ناهيك عن تحويل قسم كبير من المسافرين الشماليين إلى هذا المطار مما يُخفّف من ضغط السيارات على الطرقات ويُريح البنية التحتية لمطار رفيق الحريري الدولي.
قاعدة رياق الجوية: هذا المطار المُستخدم عسكريًا اليوم، يحتاج إلى إستثمارات كبيرة في حال تمّ إقرار إستخدام مدني له بالإضافة إلى إستخدامه العسكري. إلا أن المؤشّرات الإقتصادية، تُظهر أن هناك حاجة كبيرة لهذا الأمر نظرًا إلى الحاجة الإنمائية للمطار ونظرًا إلى قربه من الحدود السورية وهو ما قد يخدم العمليات اللوجستية لإعادة إعمار سوريا في المُستقبل. أيضًا هناك إحتمالات بتحويل المنطقة إلى مركز إقليمي على صعيد الزراعة من باب النقل خصوصًا تلك التي تتطلّب نقل سريع إلى أسواقها الإستهلاكية.
التحديات والمعوقات
لعل التحدّي الأكبر الذي يواجه "مبادرة الفينيق لإعادة إحياء سماء لبنان" هو الإرادة السياسية التي لا تزال فعّليًا غير واضحة المعالم. وحتى لو أن الأحداث الأخيرة تدفع بإتجاه إعتماد خطّة إستراتيجية كمبادرة الفينيق، إلا أن التحدّيات لا تزال كبيرة.
أيضًا من هذه التحدّيات التمويل في ظل غياب الإصلاحات الإقتصادية وغياب المساعدات الدولية، وتخلّف لبنان عن دفع مُستحقات دينه العام مما يحرمه من الحصول على قروض أو القيام بإستثمارات خاصة. عمليًا يبقى التمويل عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو الأكثر إحتمالًا نظرًا إلى الربحية العالية المُتوقّعة ونظرًا إلى وجود أموال مرصودة من قبل مُستثمرين أجانب ومحلّيين، وغير مُستخدمة حاليًا.
بالطبع من الإلزامي تفادي ظاهرة "الفيل الأبيض" المعروفة في علم الإقتصاد والتي تصف المشاريع الكبيرة المُستهلكة لرأس المال من دون جدوى فعّلية. لذا من الضروري القيام بدراسة شاملة لتجنّب هذه الظاهرة.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن ضرورة إنشاء وتفعّيل مطارات أخرى في لبنان هو ضرورة إقتصادية وإنمائية إلى جانب كونه حلّ بديل في حال وجود صراعات سياسية وإضطرابات تطال الساحة اللبنانية. وهذا الأمر يبقى رهينة الإرادة السياسية، فهل نشهد تحوّلًا كنتيجة للضغوطات الدولية؟