إذا بدأنا في تعداد الأكلاف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن تلوث نهر الليطاني، لن ننتهي. يكفي أن نشير إلى فقدان الثروة السمكية النهرية، وعجز المزارعين عن تصدير المحاصيل التي تروى من مياه الليطاني نتيجة تركز المواد السامة. وتحمل المواطنين والجهات الضامنة فاتورة صحية باهظة نتيجة انتشار الامراض الناتجة عن التلوث، وفي مقدمتها السرطان. حيث حذر وزير الصحة السابق فراس أبيض مطلع شباط الحالي من أننا ذاهبون إلى مستوى مقلق بعدد المصابين بالسرطان في لبنان، نظرا لارتفاع نسب التلوث. هذا عدا عن كلفة التراجع السياحي، وانتقال التلوث إلى البحر وابتعاد المواطنين والمشاريع عن واحد من أهم الثروات الطبيعية في لبنان.

في إطار سعيها لحماية البيئة والموارد المائية لحوض نهر الليطاني ، وجهت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني الى وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد كتابا طلبت بموجبه إتخاذ الإجراءات العاجلة لإبعاد مخيمات النازحين السوريين عن ضفاف نهر الليطاني والروافد الرئيسية التابعة له في منطقة الحوض الأعلى. على ألا تقل مسافة الابتعاد عن 200 متراً، وتنظيف المخلفات الناتجة عنها.

مخاطر المخيمات بالأرقام

رب سائل، عن حسن أو سوء نية،: "شو وقفت عالنازحين" وذلك جرياً على عادة المقيمين التقليل من مخاطر التصرفات الفردية على الوضع العام. فليوقفوا رمي النفايات بمحاذاته، والحيوانات النافقة في مجراه، وليلاحقوا مصانع الدباغة، والأمصال، والكرتون، والمعلبات.. التي ترمي مخلفاتها في النهر من دون حسيب أو رقيب.. وليعودوا بعدها إلى معالجة مشكلة النازحين. وهذا صحيح. إنما بالأرقام فان التلوث الناجم عن المخيمات قد يكون من الأكبر والاسوأ. إذ بيّن المسح الذي قامت به الفرق الفنية التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني خلال العام 2020، وجود ما يقارب 974 موقعاً في منطقة الحوض الأعلى للنهر، تضم حوالي 11460 خيمة، ويعيش فيها أكثر من 68 ألف نازح. ينجم عن هذه المخيمات 2.1 مليون متر مكعب من المياه المبتذلة سنوياً، تتدفق إلى النهر من دون معالجة. كما تعجز شبكات الصرف الصحي المتصلة بالمساكن المكتظة بالنازحين عن استيعاب الكميات الهائلة للمياه المبتذلة الناتجة عنها، بحيث تشكل برك من الصرف الصحي في الأحياء والاراضي المحاذية لنهر الليطاني. هذا وتؤدي التمديدات غير المرخصة للصرف الصحي إلى تسكير المجاري وفيضان "الريغارات".

محطات تكرير لا تعمل

خلال الاعوام الماضية عكفت المنظمات الدولية والجهات المانحة على بناء محطات الصرف الصحي، لمعالجة المياه المبتذلة وتكريرها قبل أن تصب في النهر. إلا أن هذه المحطات بمعظمها لا تعمل، أو تعمل بأقل من طاقتها لعديد من الاسباب، منها: عدم وصل كافة الشبكات، والنقص في الكهرباء، والعجز عن شراء قطع الغيار، وتدنى أجور الموظفين والعمال، الذين عادة ما يتقاضون الاموال من البلديات، ما يجعلهم غير مبالين بالعمل. وعليه لا يتم معالجة إلا 8 في المئة فقط من المياه الآسنة"، بحسب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، "بينما تبلغ تغطية شبكة الصرف الصحي 60 في المئة من المياه المنتجة".

المعنيون يماطلون

هذه الفوضى لم تنتج عن الأعداد الهائلة للنازحين التي تدفقت إلى منطقة البقاع بعد العام 2011 فحسب، إنما أيضا لقيام العديد من الافراد والجمعيات، أو حتى البليدات في أحيان كثيرة بتأجير الاراضي المحاذية لنهر الليطاني بغية الاستفادة المادية وتحت شعار مساعدة النازحين والحفاظ على البيئة والصحة العامة، من دون أي مراعاة للشروط البيئية للنهر.

مطالبات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني حماية النهر من التلوث ودرء مخاطر الفيضانات على النازحين كانت تقابل بالمماطلة من قبل كل الجهات المعنية، ومنها المظمات الدولية. مع العلم أن وجود هذه المخيمات على الضفاف يحولها إلى بؤرة ملوثة في حال فيضان المياه من النهر واختلاطها مع مياه الصرف الصحي. الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الجراثيم المنتقلة عبر المياه وآخرها جرثومة "الكوليرا" التي تشكل تحدياً جدياً حالياً، مما يخالف ويخترق الحد الادنى من حقوق الانسان وحماية البيئة.

حفاظا على مياه النهر وبحيرة القرعون، التي تغذي مشاريع ري المزروعات في البقاع والجنوب، ومشاريع مياه الشفه في المستقبل، تشدد المصحلة الوطنية لنهر الليطاني على الجهات المعنية، وفي مقدمتها وزارة الشؤون الاجتماعية إبعاد المخيمات عن الضفاف والمجاري المائية التي تصب فيه، تمهيدا لاعادة تأهيل وتشجير ضفاف النهر بما يناسب البيئة ويحترم الطبيعة.

حماية المياه والتغير المناخي

اليوم وفي ظل ما يشهده العالم من تغيرات مناخية، بدأت تنعكس تراجعاً في نسبة المتساقطات محلياً، أصبح الحفاظ على مصادر المياه أولوية. وبالاضافة إلى مكافحة التلوث، على وزارة الطاقة والمياه، والتنظيم المدني، ووزارتي الزراعة والبيئة، وضع حد للإستغلال العشوائي والجائر لمصادر المياه. وهي الظاهر التي تتمثل بحفر آلاف الآبار الجوفية في الاحواض التابعة للمصلحة. الأمر الذي يستنزف طاقة الخزان الجوفي، ويخرب الينابيع المتفجرة، ويؤدي إلى انخفاض حاد في مستويات المياه الجوفية السطحية. هذا فضلا عن ضرورة وقف كل مضخاط شفط المياه التي تنتشر على طول النهر، والتي أدت إلى اختفاء العديد من الينابيع وتحجيم تصريفها. وكما هو معروف فان شح المياه والتلوث يرتبطان بعلاقة طردية، بما يعني أن نسبة التلوث ترتفع عندما يضعف تدفق المياه وهو ما يفاقم المشكلة ويصعب إيجاد الحلول لها.

المهمة كبيرة والتحديات عديدة، لكنها ليست مستحيلة. يكفي إيلاء الاهتمام الكافي للمعالجات، والبدء بتنفيذ الخطط التي تملأ مجلدات حتى يبدأ يشعر اللبنانيون عامة وجيران النهر خاصة الايجابيات المتولدة عن مكافخة التلوث والفساد في إدارة ملف المياه.