ربما سيتأخّر الردّ الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيه طويلاً، والبعض يتوقّعه بعد الانتخابات الأميركية، فالقرار الإيراني ومعه قرار محور المقاومة هو تفادي الانجرار إلى حرب شاملة يعمل بنيامين نتنياهو بكل ما أوتي من قوة على استدراجها وجذب الولايات المتحدة الأميركية إلى جانبه فيها إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً.

فبعد تشاور حثيث كانت طهران ساحته قرّر المحور أن تكون ردوده على الاغتيالات والهجمات الإسرائيلية الأخيرة منفردة، وليس في إطار ردّ واحد وشامل بقصف إسرائيل من كلّ الجهات. لأنّ الردود المنفردة تقطع الطريق على الحرب الشاملة التي يريدها نتنياهو، بعكس الردّ الشامل الذي يقدّمها إليه على طبق من ذهب، لأنّ واشنطن ستتدخل فيها مباشرة، وهذا ما يحلم به نتنياهو لجهة توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، تدمّر منشآتها النووية وكلّ بناها التحتية والفوقية الإستراتيجية العسكرية والمدنية، لأنّها تشكّل في نظره "مصدر الخطر الرئيسي" على وجود إسرائيل.

لكنّ المحور لن يذهب إلى الحرب الشاملة برجليه مثلما يريد له نتنياهو ليس بسبب أنّه لا يريدها، وإنّما لأنّه لا يرى أنّ أوانها قد حان، فمثل هذه الحرب عندما يتقرّر خوضها ستكون الغاية منها تحرير فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر (أي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط) لكنّ أوان هذا التحرير لم يجد المحور أنّه حان. لذلك في الحرب الدائرة اليوم يحاول المحور أن يكسب بالنقاط كما يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منذ عملية طوفان الأقصى.

ويردّ مطلعون تأخّر الردّ الإيراني على اغتيال هنية إلى سببين:

ـ الأول أنّ الجانب الإيراني محشور ومحرج لأنّ هذا الاغتيال عندما حصل تسرّعت طهران في الإعلان فوراً عن معطيات تفيد أنّه حصل "من دولة إلى دولة"، أي بصاروخ مصدره خارج إيران وتوعّدت إسرائيل بردّ مزلزل. لكن الإيرانيين ازدادوا حرجاً عندما أظهر التحقيق في الاغتيال أنّ الصاروخ الذي قتل هنية كان مصدره داخل إيران وأُطلق من مكان قريب من مقر إقامته وليس من الجو، وهذا ما دلّ إلى أنّ في الأمر عملاً أمنياً، والدليل على تورّط الإسرائيلي به هو دليل تقني لأنّ التقنية أو السلاح المستخدم في العملية لا تملكه إلّا إسرائيل، وهو ما يعني أنّ لدى الإيرانيين دليلاً استنتاجياً لا دليلاً عينياً على التورط الإسرائيلي. ومع ذلك فإنّ الإيراني لا يمكنه إلّا أن يردّ بتوجيه ضربة إلى إسرائيل مشفوعة بحرص شديد على أن لا تؤدي إلى نشوب الحرب الشاملة التي يريدها نتنياهو.

الردّ الإيراني المنتظر على اغتيال هنية سيكون "مدوزناً" على طريقة ردّ حزب الله...

"المنافقون"

ومن التحقيق في اغتيال هنية تبيّن للسلطات الإيرانية أنّ الشبهات حول ارتكابه تحوم حول من تسمّيهم "المنافقين"، وهم منظمة "مجاهدي خلق" أي "فدائيي الشعب" وهذه المنظمة العسكرية كان يقودها مسعود رجوي ثم زوجته بعد مماته، وقد خضع عناصرها لتدريبات غربية وأخرى "صدّامية" (أيام نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين)، كذلك حصلت هذه المنظمة في بعض المراحل على تمويل من بعض الدول العربية بهدف محاصرة إيران وإشغالها، وتمّ تشغيلها في غير اتجاه ضد النظام الإيراني وأقيمت لها منصات في الخارج، منها منصة في فرنسا وأخرى في ألمانيا، وكانت لها منصة في أربيل تم الغاؤها، علماً بأنّها ترتبط بعلاقات متينة مع إسرائيل منذ عشرات السنين، ويبلغ عدد أفرادها نحو خمسمئة ألف من أصل ثمانين مليوناً هم عدد سكان إيران اليوم، وجميع عناصرها معارضون للنظام وموجودون في كلّ المحافظات الإيرانية، وهناك ضغوط تمارسها السلطة الإيرانية على هؤلاء بغية منعهم من تشكيل خطر على الأمن الإيراني، وهناك كثيرون منهم قيد الملاحقة الأمنية والقضائية، لكن أحياناً يفلت البعض منهم وينفذون عمليات أمنية في بعض الأماكن، خصوصاً أنّ هؤلاء موجودون في كلّ المناطق ويستطيعون التجانس مع المجتمع الإيراني، ولديهم إمكانات مادية مفتوحة، وبالتالي، فإنّ أكثر العمليات التي تنطوي على كثير من المعلومات يستفيد منها الإسرائيلي أو يشارك في ضربات يقوم بها هؤلاء ضد مواقع النظام ومصالحه.

مدوزن كردّ الحزب

ويقول مصدر معنيّ أنّ الردّ الإيراني المنتظر على اغتيال هنية سيكون "مدوزناً" على طريقة ردّ حزب الله على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، أي أنّه سيكون هناك حرص على أن لا يُعطى إسرائيل أيّ ذريعة لإشعال حرب شاملة. ويشرح المصدر آلية حصول ردّ حزب الله كالآتي:

ـ أولاً، اختار حزب الله الهدف بعناية كبيرة فلم يكن هدفاً مدنياً، حتى لا تكون لدى الإسرائيلي أي ذريعة لقصف المدنيين اللبنانيين، وفي الأصل ليس لدى الحزب أيّ مصلحة في قصف مدنيين.

ـ ثانياً، استهدف الحزب نقطة تقع على مسافة قليلة بين تل أبيب ومكان الهدف المقصود تماماً كالمسافة التي تفصل الضاحية الجنوبية لبيروت والعاصمة بيروت وهذه المسافة تبلغ 1500 متر، فهو لم يقترب في اتجاه تل أبيب سوى بهذا المقدار، أي على التخوم. فالهدف يقع خارج نطاق تل أبيب عقارياً لكنّه على تماس معها.

ـ ثالثاً، اختارالحزب هدفاً يشكّل الرأس المدبّر لكلّ الاغتيالات والعمليات الأمنية وهو مركز الاستخبارات العسكرية (أمان) ومركز "الموساد" في غاليلوت.

ـ رابعاً، تمّ اختيار توقيت فجراً كي لا يكون هناك عدد كبير من شاغلي المكان فيه، لأنّه إذا سقط 50 قتيلاً، فإنّ ذلك قد يدفع الإسرائيلي إلى شنّ حرب واسعة النطاق في حين أنّ مقتل عشرة أشخاص سيكون في إمكان إسرائيل استيعابه، وهؤلاء عادة يكونون مناوبين في المبنى.

والمعلومات التي توافرت لقيادة حزب الله أفادت أنّ إحدى المسيّرات أصابت المركز الاستخباري ودخلت فيه، أمّا النتائج فلم تعد أمراً مهمّاً في نظر الحزب، وهناك حجم كبير من الأكاذيب التي يطلقها الإسرائيليون للتعمية وعدم الاعتراف بما أصابهم.

وإلى ذلك، لفت ما قاله أحد المحللين الأجانب على بعض القنوات التلفزيونية غداة ردّ حزب الله، إذ اعتبر "أنّ الحرب انتهت وقد خسرتها إسرائيل". وعندما قيل له: لماذا تعتبر أنّ إسرائيل خسرت؟ أجاب: "ماذا تفعل إسرائيل الآن؟ ماذا تقصف من أهداف؟ إنّها تدور حول نفسها، إذا أوقفت الحرب الآن فماذا تكون النتيجة؟ هل يستطيع أيّ مستوطن أن يأمن نصف ساعة لكي يعود إلى مستوطنته؟ إنّ هذا يعني أنّ الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه".

وحين يسأل مصدر مطلع على موقف الحزب في ضوء ما جرى بعد الردّ، يجيب: "من الواضح أنّ نتنياهو سيستمر في المناورة حتى ييأس من إمكان فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وأمامه شهران حتى يفقد الأمل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيحاول الإسرائيليون الوصول إلى رأس رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" يحيى السنوار ليقولوا إنّنا حقّقنا انتصاراً، ولذلك بدأوا يتحدثون مع الأميركيين عن ملاحقة "شبح". لكن في هذا المجال بدأ البعض يرفع القبّعة لحركة "حماس" على التقنية التي تستعملها في إدارة المعركة وخوضها في قطاع غزة، فيما البعض يريدون الخلاص نهائياً منها. ويستبعد المصدر حصول اتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة.

ويعتقد المصدر "أنّ حزب الله نجح في إقامة معادلة ردع بينه وبين إسرائيل، ولذلك فإنّ ما تحلم به إسرائيل من ترتيبات تصالحية مع دول المنطقة قد انتهى لأنّ أيّ ترتيب تصالحي هدفه إنهاء شيء اسمه مقاومة في المنطقة، ولكنّ هذه المقاومة لا يمكن أن تنتهي، فهي تقاتل لتثبيت خيار المقاومة في المنطقة وهم يقاتلون ويجنّدون كلّ قواهم لإنهاء هذا الخيار، ولكنهم يفشلون. ومن هنا فإنّ بركات النتائج ستكون كبيرة جدا". ويضيف المصدر: "ليس لدينا شك في أنّ الإسرائيلي حقّق عدداً كبيراً من الأهداف التكتيكية، ولكن على المستوى الإستراتيجي فإنّ وضعه هو كمن "يحلب الحليبات ثم يرميها برفسة". أمّا الأهم فهو أنّ الإسرائيلي بات لا يملك قدرة الردع الذاتي، وصار كلما ارتفع الصوت في وجهه استدعى تدخّل الأساطيل الأميركية والغربية لحمايته ونجدته قبل أن يهزم".

لا أفق لحلول

غير أنّ مصدراً آخر يقول إنّ كلّ التقديرات السياسية تشير الى أنّ المسالة ليست لها حلول قريبة، مؤكّداً أنّ "لدى حزب الله معطيات من هذا النوع"، ويضيف: "الوضع في غزة كما في جنوب لبنان لا يبدو أنّ له أفقاً قريباً للمعالجة، ولذلك ليس لدى المعنيين أيّ معطيات جديدة تدفع إلى إعادة النظر في الموقف، فالوضع لا يزال على حاله وواضح تماماً أنّ نتنياهو يحتاج الى شكل من أشكال الوجود الدائم في غزة بما يطيح أساساً كلّ إمكانية لإعادة ترميم وضع المقاومة والعودة إلى الوضع السابق بما في ذلك احتمال العودة إلى شكل من أشكال الاستيطان في غزة، لأنّ محور نتساريم في الأصل هو مكان الاستيطان الإسرائيلي في القطاع".

وثمّة أمر ثان، يقول المصدر، وهو أنّ الدخول الإسرائيلي إلى الضفة الغربية هو قضاء نهائي على كلّ حلّ سياسي له علاقة بـ"حلّ الدولتين" وفتح الباب مجدداً أمام الاستيطان، ولا يستبعد إجراء "ترانسفير" فلسطيني جديد لأنّ الإسرائيلي يذهب إلى سيناريوهات أكثر تطرّفاً، ونتنياهو هو اليمين الإسرائيلي، وهذا يعني أنّه يحتمل أن لا يكون هناك اليوم التالي، وأن تأخذ المنطقة مدى مفتوحاً من الاضطرابات يمتد إلى ما بعد الانتخابات الأميركية وعودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض لكي يُعرف حينذاك كيف سيقاربون موضوع إعادة الهدوء، إلى المنطقة، ولكن من الآن إلى ذلك الحين، فإنّ الأفق هو أفق تصعيد ومواجهة والمستهدف الأساسي هو كلّ حلّ سياسي قائم على فكرة "الدولتين".