لم يبق للمصارف اللبنانية "صاحب". حتّى شركاؤها السياسيون ينكرون علاقتهم بها ويتبرّأون من أفعالها في العلن، ولو أنّهم يجارون مصالحها في المضمون. وقد أثبتت تجربة الأعوام الخمسة الماضية صحّة الفرضيات المحلّية والدولية التي قالت إنّ إدارة الأزمة كانت أسوأ بما لا يقاس من الأزمة بذاتها. فالمصارف، بوصفها مركز الزلزال لتبديدها أموال المودعين عن سابق إصرار وتصميم، فشّلت كلّ الطروحات المنطقية للخروج من الانهيار، واستمرّت بإجراءاتها التعسّفية وممارسة الفوقية على زبائنها. وإن كان الغرور ليس جرماً يعاقب عليه القانون، فهو على الأكيد يجرّ المُستصغرين إلى التشفّي والانتقام متى سنحت الفرصة.

مجدّداً، تعرّضت مصارف في منطقة الدورة شرق العاصمة بيروت للتكسير ومحاولة الحرق من قبل مودعين لبّوا نداء "جمعية صرخة المودعين". وحدث أن أضرم المتظاهرون النار أمام مدخل البنك اللبناني - الفرنسي وعمدوا إلى تكسير واجهات مصارف البنك العربي واللبناني السويسري والإمارات ولبنان. وتوعّدوا بقية المصارف باستمرار التحرّكات المطلبية وعدم الهدوء والاستكانة إلى حين الحصول على حقوقهم كاملة.

مشكلات المودعين مع المصارف

يواجه المودعون في المصارف التجارية اللبنانية مشكلتين جوهريتين:

المشكلة الأولى، العجز عن سحب ودائعهم من خارج التعميمين الأساسيين لمصرف لبنان 158 و166. التعميم الأول يسمح لأصحاب الودائع المشكّلة بالدولار قبل تشرين الأول 2019 بسحب ما بين 300 و400 دولار شهرياً. والتعميم الثاني يسمح لأصحاب الودائع المشكّلة بالدولار بعد هذا التاريخ بسحب 150 دولاراً فقط. ومع انتهاء العمل بالتعميم 151، توقّفت المصارف عن السماح للمودعين بالسحب من حسابات العملة الأجنبية بالليرة، على سعر صرف 15 ألفاً لكلّ دولار. فالسعر الأخير إشكالي ولم يعد رسمياً، وليس ثمّة سقوف تحدّد الكميات الممكن سحبها. مع العلم أنّ مصارف عدة تتفق مع المودعين على سحب ودائعهم بالليرة على أسعار صرف مختلفة تراوح بين 15 و30 ألف ليرة. ذلك أنّ هذه العملية تصبّ في مصلحتها من خلال تخفيض التزاماتها حين الوصول إلى عملية إعادة الهيكلة. وفي جميع الحالات، فإنّ إمكانية الوصول إلى كلّ الودائع تبقى مستحيلة لأن لم يبقَ للأموال وجود فيزيائي. ولا يمكن حلّ هذه المعضلة من دون الاتفاق على كيفية توزيع الخسائر، أو ما يعني توزيع المسؤوليات بين المصارف، والدولة، ومصرف لبنان والمودعين. وهذا ما تحاول الخطّة الأخيرة المرقّمة (4) على سلّم الخطط المقترحة التوصّل اليه، ولكن، يا الأسف، على حساب المودعين مرة جديدة. وقد فصّلناها في سلسلة مقالات تحت عنوان: "الطّبخة" الجديدة لتوزيع الخسائر وُضعت على نار حامية: هل يستوي "البحص".

المشكلة الثانية، تصرّف المصارف بفوقية مطلقة في علاقتها مع المودعين، وفرضها إجراءات مخالفة للقوانين، وتقاضيها عمولات أشبه بـ "الخوّات". يحدث كلّ ذلك في ظلّ "غياب أي ضوابط أو روادع يفترض بمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف القيام بها لاستعادة انتظام العمل المصرفي"، بحسب المحامية دينا أبو الزور. ومن المخالفات التي تسجّلها رابطة المودعين، وهي جمعية تسعى للحصول على حقوق المودعين من خلال القضاء والضغط على صنّاع القرار وتشكيل لوبي في مواجهة المصارف:

- إقفال حسابات لمودعين يحملون الجنسية الأجنبية ويشكّلون تهديداً جدياً على المصارف من خلال رفع دعاوى في الخارج.

- عدم قبول الشيكات المصرفية لتسكير ديون قديمة، إلّا بتسديد المودع عمولة تراوح بين 20 و30 في المئة من قيمة القرض نقداً وبالدولار. حتّى لو كان الشيك صادراً من المصرف نفسه.

- رفض تسديد قروض المقيمين الشخصية بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي كما فرض مصرف لبنان في تعميم ما زال قيد التنفيذ.

- الطلب من العملاء نقل حساباتهم من المجمّد إلى الجاري تحت طائلة فرض عمولة تصل إلى 200 دولار شهرياً.

- فرض عمولات على السحب والإيداع كبيرة جداً وتصل إلى أكثر من 1 في المئة بعدما كانت تراوح بين 1 و5 في الألف سابقاً.

رفض قبول الشيكات ووضعها في الحسابات.

يواجه المودعون في المصارف التجارية اللبنانية مشكلتين

لجنة الرقابة على المصارف والدور المفقود

وقفُ هذه التجاوزات "يقع على عاتق لجنة الرقابة على المصارف أولاً وأخيراً"، تقول أبو الزور. "إذ يتعيّن على اللجنة التدقيق في مدى التزام المصارف العقد الموقّع بينها وبين العميل، قبل حتى التثبّت من مطابقة الإجراءات لتعاميم مصرف لبنان. خصوصاً لأنّ الأخيرة ليست بقانون وهي غير ملزمة. وقد صدر قرار واضح عن رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني قالت فيه إنّ تعاميم مصرف لبنان هي قرارات إدارية غير ملزمة. هذا عدا كون التعاميم، ومنها ذلك الذي يفرق بطريقة تسديد القروض بين المقيمين وغير المقيمين، فيسمح للأول التسديد بالليرة على السعر الرسمي، ويلزم الثاني التسديد بالدولار، تعتبر "تمييزية وغير عادلة" من وجهة نظر أبو الزور. "فقسم من غير المقيمين كان يعتمد في التسديد على وديعته في المصرف. "فاختفت الوديعة وأجبر على تسديد القرض بالدولار النقدي". وبحسب أبو الزور، فإنّ "لجنة الرقابة على المصارف مغيّبة بشكل مطلق، وهناك أخبار في أروقة مصرف لبنان الخلفية عن إمكانية إلغاء دور هذه اللجنة، وذلك على غرار ما حصل مع هيئة الرقابة على الأسواق المالية، بسبب فشل اللجنة القيام بدورها.

بين القضاء وانتزاع الحق بالقوة

المشكلة أنّ التحرّكات العدائية تجاه ممتلكات المصارف المادية للحصول على الحقوق لم تؤدّ خلال السنوات الماضية إلّا إلى زيادة الإجراءات التعسّفية. إذ تُضرِب المصارف، أو تتوقّف عن استقبال المودعين، وتقفل الصرّافات الآلية بالحجرات الحديدية. هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث المضمون فهناك عشرات علامات الاستفهام على دور بعض جمعيات حقوق المودعين، والأهداف التي يخدمونها. ويذهب البعض إلى اعتبارها أداة بيد المصارف تستخدمها لتمرير مطالبها والضغط على السلطة السياسية بعد رشوة القيّمين عليها وتسديدها لودائعهم. في المقابل، تعمل بعض الجمعيات من خلال الأطر القانونية على تحصيل حقوق المودعين. "على الرغم من أخذ بعض القضاء موقفاً إلى جانب المصارف بعد التقديمات التي نالها من الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة". برأي الزور. "ويقع القضاء بين معضلتين: حماية القطاع المصرفي وليس المصارف والانتهاء من الدعاوى الموجودة أمامه".

من الواضح أنّ عزيمة المودعين للدفاع عن حقوقهم بشتى الطرق قد خفتت إلى درجة الاضمحلال. فلا دعاوى جديدة تُرفع والمودعون استسلموا للأمر الواقع. "وهذا ما نلمسه لمس اليد من خلال توكيل الرابطة التي تتوكّل مجاناً عن المودعين بنحو 300 دعوى قضائية من أصل حوالى مليون مودع، بحسب آخر الإحصاءات". وهذا يعود إلى مجموعة من العوامل القضائية والنفسية والسياسية والإعلامية وغيرها العديد من الأمور المحبطة.

بيان جمعية المصارف

جمعية المصارف ردّت في بيان على الاعتداءات التي شملت فروع بعض المصارف، معتبرة أنّها "مغرضة، قام بها أصحاب المصالح الشخصية والهادفون إلى الاصطياد في الماء العكر على حساب المودعين. فالقاصي والداني المتمتّعان بحدّ أدنى من العقلانية وحسن التفكير يدركان أنّ الإضرار بممتلكات المصارف وتخفيض قيمة موجوداتها أو زيادة أعبائها ومطلوباتها يضعفان من قدرتها على ردّ أموال المودعين. فهل هذه هي الغاية التي يسعى إليها هؤلاء؟". وأضافت الجمعية أنّ "المصارف أثبتت ليس بالأقوال بل بالأفعال، لا سيما عن طريق الاستحصال على قرار قضائي من أعلى مرجع قضائي إداري بإبطال القسم من خطّة الحكومة الرّامي إلى شطب قسم من التزامات الدولة تجاه المودعين، أنّها حريصة على حقوقهم. هكذا يكون الدفاع عن حقوق المودعين وليس بتكسير آلات الصراف الآلي في فترة يستعد فيها المودعون لسحب رواتبهم الشهرية". مضيفةً أنّ "المصارف على يقين بأنّ المودعين الحقيقيين هم براء من كلّ ما يحدث، وتوجه أصابع الاتهام إلى كلّ من تاجر وما يزال بقضيتهم لمصالح شخصية معتمداً التخريب وسيلة، في حين يحاول الجميع إيجاد الحلول الممكنة في وقت تمر البلاد بأصعب المراحل. إنّ جمعية المصارف، إذ تستنكر ما حدث في الماضي ويحدث اليوم، كانت ولا تزال تعمل مع أصحاب الإرادة الطيبة على إيجاد الحلول الواقعية والعادلة للأزمة الحالية".