تتراكم الدوافع والمبررات التي تفرض على "محور الممانعة والمقاومة" الدخول في حرب أوسع لم يكن يريدها في الأساس، ما حدانا لطرح السؤال في المقال السابق:
هل يمكن أن تقع حرب بين مَن يريد (إسرائيل) ومَن لا يريد (المحور الإيراني)؟
في الحقيقة، لم تترك إسرائيل مجالاً لتفادي الحرب ولم تنتظر ذريعة جديدة من أعدائها الذين حرصوا على الانضباط الممكن، سواء بعدم الرد على الاغتيالَين في طهران وضاحية بيروت أو في الرد المحدود والمدروس بدقّة.
فقد أنتج مشهد آلاف الجرحى والضحايا من "حزب الله" بفعل التفجير الإجرامي لأجهزتهم من طراز "pager" ثمّ اللاسلكية "talkie walkie" من طراز Icom، ومعهم السفير الإيراني في بيروت، حالة حتمية للرد الذي قد يؤدّي إلى حرب أشمل.
وبالتوازي مع ارتفاع خطر الحرب، كانت لافتة نقطة الضوء اللبنانية في عتمة الحدث الدامي، لجهة التضامن الانساني والاجتماعي لدى جميع المكوّنات، ليس فقط في كلّ المستشفيات وحملات التبرّع بالدم بل أيضاً في الأوساط الشعبية والسياسية والاعلامية وعلى مواقع التواصل.
إسرائيل تستعد للحرب الواسعة في شمالها كأنها حاصلة حتماً بدون انتظار ما يحضّره "الحزب" من ردود
وفي ظلّ التضامن اللبناني العابر للمناطق والبيئات، لا بدّ من وقت للتفكير الهادىء حول الحرب، تفلّتاً أو ضبطاً، خصوصاً أن إيران تتجه إلى تحييد نفسها عن الدخول المباشر فيها، تحت ضغط المفاوضات مع واشنطن وحسابات القدرة العسكرية والاقتصادية، وتكتفي بالدعم اللوجستي وبإرسال آلاف المقاتلين من اليمن والعراق وفصائل أخرى، في حين أن "الحزب" مُجبَر على خوض المواجهة ولو على قاعدة الحديث الشريف "يدخلون الجنة بالسلاسل"، وهنا طبعاً دخول جحيم الحرب وليس جنّتها.
ولا بدّ من رصد التوجّه الفعلي، حرباً أم دوراناً في "المشاغلة"، في حديث السيّد حسن نصرالله مساء اليوم، والذي لا بدّ من أن يكون أشدّ حسماً من خُطَبه السابقة، بما فيها خطابه غداة اغتيال ذراعه العسكرية القائد فؤاد شكر قبل 50 يوماً.
ولا يخفى أن إسرائيل تستعد للحرب الواسعة في شمالها كأنها حاصلة حتماً بدون انتظار ما يحضّره "الحزب" من ردود، أو ربما استباقاً لها.
وإذا كان ميزان التكنولوجيا والمخابرات والتفوّق الجوّي والبحري يميل بشكل حاسم لمصلحة إسرائيل، فإن مركز القوة في مواجهتها يكمن في البرّ بما ل"الحزب" من بأس وقدرة على المجابهة أثبتها في حرب تمّوز 2006 خصوصاً في مواجهة وادي الحجير الشهيرة، إضافةً إلى تطويره شبكة أنفاق قد تعجز غارات الطيران عن تدميرها.
ولذلك ولكلّ هذه الأسباب، قد تستعيض إسرائيل عن الهجوم البرّي بعمليات تدمير هائلة وشاملة في منطقة جنوب الليطاني بكاملها ما يجعلها أرضاً محروقة غير قابلة للحياة، فتحقق بذلك شريطاً عريضاً عازلاً بقوة النار.
وليس ثابتاً ما إذا كانت ستكرّر تجربة "الشريط الحدودي" المعروف قبل العام 2000، بسبب اختلاف معطيات الميدان والقدرات العسكرية، إلّا إذا بدّلت عمليات "الأرض المحروقة" هذه المعطيات والقدرات.
كل هذه الخطورة في الميدان والخيارات والمجازفات توجب، وخلافاً للعواطف المتأججة والرغبات في الثأر، مراجعة عميقة للميزان الاستراتيجي وقياس احتمالات الانتصار أو الانكسار، بحثاً عن فرصة أخيرة للتسوية التي تمنع الحرب. وهنا يكمن دور محوري لإيران في ترشيد العقول وتبريد القلوب وفرض سياق تهدوي تحت المعادلة التي أطلقها مرشد الجمهوري الإسلامية السيّد علي خامنئي عن تقبّل "التراجع السياسي والعسكري التكتيكي" أمام العدو، تفادياً للحرب بالإكراه.
صحيح أن أثمان ما يقارب السنة من "الإسناد والإشغال" ثقيلة وفادحة بشراً وحجراً، لكنّ المرجّح أن الأثمان اللاحقة ستكون أثقل وأفدح.
ولا شكّ في أن هذه التسوية تتضمّن شيئاً من "تجرّع السمّ" على الطريقة الإيرانية (الخمينية) لوقف حرب العراق بقيادة صدّام حسين في العام 1988.
ويجب أن تقترن مراجعة الميزان العسكري باحتساب الخسارة الراهنة مع الخسارة الآتية في الحرب الأوسع، إلّا إذا كان نتنياهو حسم دربه غير المرتد نحو الحرب لجرّ أعدائه إليها، ضمن حساباته الجيو سياسية، قبل استحقاق 5 تشرين الثاني الأميركي.
في هذه الحال، لا مجال أمام "المحور الإيراني" سوى أن يسلك مسلكاً غير مرتدّ، ولسان حاله يردّد مع الشاعر العبّاسي أبي العلاء المعرّي:
"مشيناها خُطىً كُتِبت علينا
ومَن كُتِبت عليه خُطىً مشاها"!