يترقّب الجميع – حلفاء الولايات المتحدة وخصومها – نتائج الانتخابات في الخامس من تشرين الثاني المقبل. ليس انتخابات الرئاسة فقط، بل الانتخابات النيابية أيضاَ لمعرفة الجهة التي ستفوز في مجلسًي الشيوخ والنواب. فلن يتمكن أي رئيس – أيّاَ تكن قوّته – من تنفيذ أجندته إذا كان الكونغرس مناهضا له أو حتى إذا كان منقسما. صحيح أنّ الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة قد يكون أهمَّها الأوامرُ التنفيذية – أو المراسيم الرئاسية – لكن هذه الصلاحيات محصورة النطاق ولا يمكنها أن تحلّ محلّ القوانين، خصوصاً إذا كانت سترتّب على الخزينة العامة أعباء مالية.
إن فازت نائبة الرئيس كملا هاريس، فالخطوط العريضة للسياسات التي ستتبعها معروفة، لكنها ستحرص على أن تمهر تلك السياسات بطابعها الخاص لتبدو مختلفة عن سياسات الرئيس بايدن.
أما إذا فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب فسيظهر تحول كبير في السياسة الخارجية بسعيه إلى تبني سياسة "أميركا أولا،" أي التركيز على الداخل وتقويته والاستثمار فيه على حساب التعاون الدولي. وسيظهر الفارق أيضاً في سياسة الهجرة وحماية الحدود علما بانّ المسؤولية هي مسؤوليّة الكونغرس وليست مسؤوليّة البيت الأبيض. معارضو نهج "أميركا أولا" يقولون إنه يرتّب مخاطر على الصعيدين المحلي والدولي، إذ قد يقوّض النظام العالمي الليبرالي الذي كان حجر الزاوية في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بحسب دراسة لتشارلز كوبتشان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجتاون فإن لشعار "أميركا أولا" جذوراً تعود إلى جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الذي دعا في خطابه الوداعيّ عام 1796 إلى "أقل اتصال سياسي ممكن مع الدول الأجنبية" لأنّ "سياستنا الصادقة هي الابتعاد عن أيّ تحالفات دائمة مع أي جزء من العالم الخارجيّ."
بحسب دراسة لتشارلز كوبتشان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجتاون فإن لشعار "أميركا أولا" جذوراً تعود إلى جورج واشنطن
إشارة ثانية إلى "أميركا أولا" موجودة في حملة الرئيس وودرو ويلسون إبّان الحرب العالمية الأولى، وهي الإصرار على عدم المشاركة في الحرب. وقد فُسّرت بأنها التزام بالحياد. لكن جهود ويلسون الحيادية فشلت ودخلت الولايات المتحدة الحرب عام 1917 بعد إغراق البحرية الألمانية سفنا تجارية أميركية وعرض ألمانيا على المكسيك مساعدتها لاستعادة أراض أخذتها الولايات المتحدة "عنوة."
بين الحربين الأولى والثانية عادت الولايات المتحدة إلى الاهتمام بشؤونها دون التفات كبير إلى ما يجري في العالم. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية شكّل أنصار الانعزال الأميركي "لجنة أميركا أولاً" التي نجحت في إبقاء الولايات المتحدة خارج الحرب، إلى أن هاجم اليابانيون مرفأ بيرل هاربر العسكري في هوايي، فدخلت أميركا الحرب بتأييد شعبي عارم – حتى أنها سُمّيت "الحرب الشعبية" – وحوّلت اقتصادها إلى اقتصاد حرب. وبعد الانتصار في الحرب لمع في واشنطن نجم النزعة العالمية الليبرالية. وكانت أميركا رائدة في بناء النظام العالمي الليبرالي من خلال مشروع مارشال وإعادة بناء أوروبا واليابان وعرض حمايتها العسكرية والأمنية من خلال مظلتها النووية للدول الحليفة غير النووية.
بالعودة إلى عهد ترامب (2016-2020) تمثلت سياسة "أميركا أولا" برفض التعددية والتركيز على العمل الأحادي. انسحبت إدارة ترامب من العديد من الاتفاقيات الدولية، وأبرزها اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني.
يقول مؤيدو النزعة العالمية، وهم الديمقراطيون وبعض الجمهوريين إن للنزعات الانعزالية لسياسة "أميركا أولا" عدة عواقب، أوّلها تفتّت التحالفات الطويلة الأمد، وذلك بإعطاء مصالح أميركا الأولوية على حساب الشراكات التقليدية. ومن المرجّح أن يسهّل تآكل التحالفات الدولية صعود الهيمنة الإقليمية، فتستغل دول مثل الصين وروسيا هذا الفراغ لتوسيع نفوذها. مثال ذلك مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تسعى إلى إقامة علاقات اقتصادية ومشاريع بنية تحتية في جميع أنحاء آسيا وخارجها، لتسهّل هيمنة الصين في الشؤون الدولية.
من الناحية الاقتصادية، تترجم مبادرة "أميركا أولا" إلى سياسات حمائية يمكن أن تلحق الضرر بالمستهلكين المحليين والعلاقات التجارية الدولية. غالبا ما أدت التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب في عهده الرئاسي بهدف حماية الصناعات الأميركية إلى اتخاذ تدابير انتقامية من دول أخرى ، ما أدى إلى حروب تجارية أضرت في النهاية بالمستهلكين الأميركيين.
وعزّز الخطاب المحيط بشعار "أميركا أولا" الاستقطاب الداخلي في الولايات المتحدة، وهو ما من شأنه أن يفاقم الانقسامات الداخلية على أساس العرق والطبقة والجغرافيا.
لكن مستشاري حملة ترامب الانتخابية يردون على هذه الحجج بالقول إن النزعة الدولية الليبرالية طغت منذ الخمسينيات وعاشت نحو سبعين عاما. لكن تجويف الطبقة الوسطى بتآكل قوتها الشرائية وانتقال الحركة الصناعية إلى خارج الولايات المتحدة جعلا هذه النزعة الدولية تخبو "لأن الولايات المتحدة فقدت التوازن بين قدراتها وأهدافها الدولية."
حين وصل ترامب إلى الرئاسة في 2016 قال في خطابه الافتتاحي إن "كل قرار سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو تجاري سيؤخذ على أساس مصلحة أميركا أولا." ويخشى الكثيرون اليوم، في الولايات المتحدة وخارجها من عودة محتملة له إلى ولاية رئاسية ثانية، لأنه هذه المرة "سيُنزِل عن كاهل أميركا أعباء التزاماتها الدولية،" على ما يقول مستشاروه.