غذّى عدوان "تحت الحزام" على مدى اليومين الماضيين الخشية على الأمن الغذائي. فـ "مارد" الخوف من انقطاع السلع الأساسية، الذي أطلّ برأسه عقب هجوم pager المفخّخة، قد لا يعود إلى "فانوسه" إذا استشعر توسّع الحرب. وكلّ الإجراءات التي اتّخذت على المستوى العام ستصبح "أثراً بعد عين". خصوصاً إذا تدهور الوضع العسكري أكثر فأكثر.

الطلب طبيعي في المحالّ التجارية

حتى مساء أول من أمس، لم تسجل الأسواق حالات تهافت على شراء الوقود والمواد الغذائية. وذلك على الرغم من توقّع الأكثرية بفتح باب الحرب على مصراعيه بعد الهجوم السيبراني الخبيث. فـ "الطلب ظلّ ضمن المعدّلات الطبيعية"، قال د. نبيل فهد نائب رئيس "غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان"، ورئيس "نقابة أصحاب السوبرماركت". "ولم نلحظ أيّ تغير في سلوك المستهلكين من حيث كمّيّة المشتريات ونوعيتها". إذ عادةً تتركّز عمليات الشراء في أوقات استشعار الخطر على الحبوب والمعلّبات والطحين والمياه والغاز والشمع. ويختار المستهلكون سلعاً من الأحجام الكبيرة وذات صلاحية طويلة، يتموّنون لمدّة شهر بالحد الأدنى. وهذا ما لم يحصل إلى عشية 19 أيلول، عقب الهجومين المتتاليين بواسطة أجهزة البيجر واللاسلكي"، بحسب فهد. وقد يعود السبب، برأيه، إلى "بقاء التصعيد العسكري تحت السيطرة من جهة. ووصول المستوردات من الخارج بطريقة منتظمة ومن دون معوقات أو تأخير". وأضاف فهد "لا خوف على توفّر السلع والمواد الغذائية، والمخزون قرابة ثلاثة أشهر".

القدرة المادية المحدودة تقلّص الطلب

الخوف من انقطاع الوقود والأدوية والمواد الغذائية، وتعمّد المواطنين التخزين، ولو بكميّات قليلة، تكرّرا أكثر من مرة منذ 7 تشرين الأول 2023. ولعلّ المرّتين البارزتين كانتا مطلع الحرب، وعقب اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والقائد في المقاومة فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، نهاية تموز الماضي. وفي المرّتين توقّع المستهلكون ردّاً قويّاً، وردّاً على الردّ، يخرج الحرب من قواعد الاشتباك ويقطع الأوصال البحرية والجوية والبرية. فعمدوا إلى التموين. إلّا أنّ هذا لم يحصل عقب الهجوم السيبراني على لبنان لثلاثة أسباب هي:

- توقّع المستهلكين عدم توسّع الحرب، ولو بلغ التصعيد مداه، واستمرارها ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها منذ 8 تشرين الأول انطلاقاً من التجارب السابقة.

- الصدمة التي أحدثها الهجوم عبر وسائل الاتصال اللاسلكية، وانتشار حالة من الذهول عمّت لبنان من أقصاه إلى أقصاه.

- تراجع القدرة المادية عند المواطنين ومعاناة 23 في المئة من السكّان من انعدام الأمن الغذائي بحسب التصنيف المرحلي المتكامل للفترة الممتدة من نيسان إلى أيلول الجاري. في حين يقبع 44 في المئة منهم في مرحلة الاإهاد. وسعي الأغلبية إلى تأمين المأكل والمشرب يوماً فيوماً.

اقتراب الشتاء يرفع الطلب على المازوت

كما في السوبرماركت، "لم تسجّل المحطّات زيادة الطلب على شراء المحروقات"، بحسب مستشار أصحاب المحطات فادي أبو شقرا. وذلك على الرغم من تراجع الأسعار بشكل كبير ومستمر في جداول تركيب الأسعار الثمانية الأخيرة. إذ انخفض سعر مادتي البنزين والمازوت نحو 200 ألف ليرة. وأوضح أبو شقرا أنّ "زيادة الطلب على المازوت تعود بشكل أساسي إلى اقتراب موسم الشتاء وبدء المواطنين شراء المادة للتدفئة، خلافاً للطلب على البنزين الذي يشهد تراجعاً ملحوظاً نتيجة الوضع الأمني وخروج السياح والمغتربين، وحدّ المواطنين من تنقّلاتهم. وفي ما يتعلق بالكميات المتوفرة أكد أبو شقرا "وجود كميات كافية من المواد في الشركات والمحطّات، بسبب وصول سفن المحروقات في المواعيد المتفق عليها".

خطّة الطوارئ الاقتصادية ما زالت مفعّلة

هذه الإجراءات الفردية من القطاع الخاص ترافق تدابير اتخذتها وزارة الاقتصاد على مدى الأشهر الماضية لتسريع إخراج البضائع من المرفأ، وتخزينها بعيداً عن أماكن الصراع، ومراقبتها للأسعار حرصاً على عدم ارتفاعها. "وهذه التدابير مستمرّة على الوتيرة نفسها"، بحسب ما يؤكد المدير العام لوزارة الاقتصاد د. محمد أبو حيدر. "إذ تتم عملية اخراج البضائع من المرفأ بصورة طبيعية وسريعة. وما زلنا نعمل بموجب خطة الطوارئ التي وضعناها، من حيث إخراج كلّ البضائع من المرفأ وتسريع المعاملات والمحافظة على قدرة التخزين القصوى المحدّدة تقريباً بثلاثة أشهر لمعظم أنواع السلع".

الوضع ضبابي جداً

الهدوء النسبي في الأسواق "قد يبقى على ما هو عليه إذا لم تتوسّع الحرب"، يؤكّد عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال. فتركيز المستهلكين ينصبّ على شراء السلع والمواد الأولية، وبوتيرة يومية، بعيداً عن كلّ ما هو كمالي أو غير أساسي وسلع معمرة، نتيجة تراجع القدرة الشرائية. أمّا في حال توسّع العدوان فإنّ سوق الكماليات ستتوقّف كلّياً، ولن تبقى على وتيرتها المتراجعة منذ بداية العام الحالي، في حين قد يزيد الضغط على شراء السلع الأساسية إنّما ليس بكميّات قليلة ولمدة لا تتجاوز الأسبوع، بسبب تراجع القدرة الشرائية". ويؤكّد رمال أنّ "التوقعات التجارية والاقتصادية للمستقبل القريب قد لا تكون دقيقة لتشعّب الأحداث وتداخلها بشكل كبير، وانعدام قدرة التوقّع على وجه الدقّة للمسار الذي قد تتخذه الحرب".

كذلك تلفّ الضبابية مجمل المشهد الاقتصادي على الصعيدين الداخلي والإقليمي. وجلاؤها سيكشف أرضاً محروقةً أو استمراراً لمعادلة المراوحة. وفي الحالتين، فإنّ الترقّب الحذر ما هو إلّا الهدوء الذي يسبق العاصفة.