ينهمك العالم بكلّ ما له علاقة بـ "الأمن". ولشدّة أهمّية المصطلح أضحى يُسبغ على كلّ شيء. وكلّما زادت القدرة على توفير الكمّيات الكافية من الحاجات والخدمات، وإنتاجها محلّياً، وتأمين سهولة الوصول إليها، وإتاحة شرائها بأسعار معقولة، والحرص على استقلالها وعدم تقطّع سلاسل توريدها، ساعد ذلك على تعزيز الأمن الغذائي، والطاقوي، والسيبراني والمائي، والصحّي، والمالي، والتعليمي… والعكس صحيح أيضاً.
يوماً بعد آخر، يثبت لبنان فقدانه كلّ أشكال "الأمن الاستراتيجي" بحسب المفاهيم الحديثة. وقد أتى الخرق "السيبراني" الأخير لأجهزة الـ pager، ليثبت مرّة جديدة انكشاف لبنان على جميع المخاطر والتحديات المادية والمعنوية. وقد استفاد المعتدون من غياب دور الدولة ورقابتها لتمرير شحنة "ملغومة"، بعيداً عن أجهزة الرقابة المختصّة. إذ في العادة تخضع المستوردات التقنية لرقابة معهد البحوث. وهذا لم يحصل في حالة البيجر المتفجرة. كما استفاد العدو من عجز لبنان عن انتاج أبسط التقنيات والحاجة الماسّة إلى استيرادها من الخارج، مع ما يحمله الأمر من مخاطر لا تتعلّق بسلاسل التوريد والأسعار فحسب، إنّما أيضاً التدخّل فيها فيزيائياً لزرع الأعطال. وفي الحالة الأخيرة، كانت متفجرات. ويمكن في حالات أخرى كثيرة أن تكون أجهزة تنصّت واستخبارات، وغيرها العديد من الخروق.
يفيد خبراء في مجال الاتصالات بأنّ نظام "البيجر" لم يعد مستخدماً منذ زمن. وعليه، لن يكون للعدوان الأخير أيّ تأثير في سوق الاتصالات. إلّا أنّ هذا لا يعني عدم تأثّر لبنان مادّياً ومعنوياً بعدوان "تحت الحزام" السيبراني.
إلغاء شركات طيران رحلاتها
أبرز هذه التداعيات وأخطرها كانت شكّ اللبنانيين في كلّ ما هو تقني، والخوف من استعماله، بدءاً بالهاتف الجوال بين أيديهم، مروراً بأجهزة الكمبيوتر والتلفزيون، وصولاً إلى وحدات الطاقّة الشمسية. فمن يخرق تردّد شبكة "البيجر" الخاص، ويزيد الضغط على بطارياتها لتنفجر، يمكن أن يخرق أيّ جهاز آخر محمول، وموصول لاسلكياً بشبكة الأنترنت. وهو الأمر الذي دفع بشركات طيران عالمية، مثل شركة الخطوط الجوية الفرنسية، إلى تأجيل رحلاتها إلى لبنان حتى 19 أيلول. لأنّ افتراض حمل مسافر واحد جهازاً مخترقاً قد يؤدّي إلى كارثة ومقتل المئات. وقالت الشركة في بيان إنّ "استئناف العمليات سيبقى خاضعاً لتقييم يومي للوضع الميداني"، مشيرةً إلى أنّها "تتابع باستمرار تطوّرات الوضع الجيوسياسي في الدول التي تخدمها طائراتها وتحلّق فوقها من أجل ضمان أعلى مستوى من السلامة والأمن لطائراتها وركابها". كذلك أعلنت شركة الطيران الألمانية "لوفتهانزا" تعليق رحلاتها إلى 19 أيلول ضمناً.
الخسائر المادّية، على فظاعتها، تبقى أقلّ بما لا يقاس من الخسائر البشرية التي لحقت بالمواطنين.
الأمن الصحّي
إنّ فقدان الأمن السيبراني كشف الحاجة الماسّة إلى دعم "الأمن الصحي والاستشفائي" وتعزيزه. فالضغط الذي وضعه العدوان السيبراني على المستشفيات والأجهزة الطبية والإسعافية، فاق ذلك الذي نتج من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020"، بحسب نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون. "فعلى الرّغم من كثرة عدد الإصابات في انفجار المرفأ مقارنة بعدد الإصابات في العدوان السيبراني، تلقّت معظم الحالات وقتذاك الإسعافات في الطوارئ وخرجت سريعاً. على عكس ما حدث أول من أمس، إذ بلغ عدد الإصابات نحو 4000 خضعت معظمها لعمليات جراحية. وأكثر المصابين ما زالوا يتلقّون العلاج في المستشفيات. وهذا ما شكّل ضغطاً كبيراً على غرف العمليات، وحجز عدد كبير من الغرف، وزيادة أطقم التمريض والخدمة على مدار الساعة". وبحسب هارون، فإنّ "المستشفيات استطاعت أن تتعامل بفعالية كبيرة مع العدوان، إلّا أن ما حصل طرح مجدّداً قضية دعم المستشفيات وتسديد مستحقّاتها وتزويدها كلّ ما تحتاج إليه". وذلك من أجل تلبيتها للحالات الطارئة، وحتّى غير الطارئة لو توسّعت الحرب وأخذت منحى تصعيدياً. ويقدّر هارون الكلفة الصحية للعدوان بعشرات ملايين الدولارات. ولا يجزم إذا كانت وزارة الصحة ستسدّد المبالغ فوراً أو تؤجّلها ثم تدفعها مقسّطةً، فهذا الأمر لم يظهر بشكل واضح بعد".
الإقفالات عمّت لبنان
غداة العدوان السيبراني، أعلنت القطاعات الاقتصادية العامّة والخاصّة الإضراب العام، يوم أمس غضباً وحداداً على الضحايا. فأقفلت المدارس والثانويات والمعاهد والجامعات أبوابها بناءً على قرار من وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلي. وأعلن الاتحاد العمالي العام الإضراب العام في الإدارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلّة والبلديات. وتوقّفت هيئة الشراء العام عن العمل كلّياً وألغت المواعيد السابقة، واعتذرت عن استقبال أي بريد يدوي أو الكتروني. وأعلنت نقابة الصيادلة "الحداد، مع حصر نشاطها الإداري بالمعاملات المتعلّقة بإدخال الأدوية. وذلك حفاظاً على الأمن الصحّي للمواطنين. وأقفل عدد وافر من المحال والمؤسسات التجارية. وعلّقت الكثير من جمعيات المجتمع المدني NGO عملها يوماً واحداً تضامناً وحذراً. وشُلّت الحركة بشكل شبه كلّي في البلد. ويقدّر الخبراء أنّ كلفة كلّ يوم إضراب عام حوالى 105 ملايين دولار. فانطلاقاً من أنّ الناتج المحلّي الإجمالي مقدّر بموازنة 2025 بحوالى 27 مليار دولار، فإنّ كلّ يوم غير منتج من أصل 260 يوم عمل في العام يؤدّي إلى خسارة الاقتصاد أكثر من مئة مليون دولار.
لكنّ الخسائر المادّية، على فظاعتها، تبقى أقلّ بما لا يقاس من الخسائر البشرية التي لحقت بالمواطنين. وهذه الكلفة في نهاية المطاف لا يمكن تقديرها بثمن.